الأحد، 20 سبتمبر 2009

يحدث احيانا في ليلة العيد


يحدث احيانا في ليلة العيد ان يجتمع كل افراد الأسرة حتى الغائب منهم والشارد في جو دافيء ربما لا يتكرر طوال السنة بما تحمله من مشاغل ومفرقات ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان يطل طفل صغير بابتسامته الصاخبة على الضيوف وهو يرتدي ملابسه الجديدة مزهوا بينما تنهره امه برفق ان يعتني بها ويدخرها للغد كي يكون جميلا ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان تقضي اسرة بسيطة ليلتها حتى الصباح في التسوق واكمال مستلزمات العيد من طعام وملابس فهو عامل بسيط لم يتم صرف مرتبه الا متأخرا وهي زوجة ابسط احترفت غزل الصبر ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان تضج البارات بروادها بعد طول اغلاق قسري ويراق الأصفر والابيض والأحمر مع قهقهات ارتياح من عناء تظاهر طويل ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان يحلم عاشق صغير بلقاء فتاته خلسة عن عين الأهل وبمساعدة صديقتها في احدي دور السينما لتعود الى منزلها تحمل رجفة لن تنساها بعدها ابدا طيلة حياتها ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان تزدحم القرى بالعائدين مؤقتا الى مسقط رأسهم ويختلط عطر المدينة برائحة الخبز والقش المحروق بينما تلمع عيني امهات عجائز غير جميلات يتشحن بالسواد منذ سنوات طويلة ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان يتذكر فجأة الصبية انهم بحاجة الى حلق رؤوسهم .. كي ملابسهم .. وان الوان الجديد منها غير متناسقة ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان تخرج للطرقات العاهرات والمتسولون .. العشاق ورجال الأمن .. الأسر وباعة الوهم الجائلون .. يلتحم الجميع ويستوعب الجميع الجميع ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان تتزين الحدائق وترتدي دور السينما افيشات افلام رديئءة صنعت خصيصا من اجل جمهور متحمس يقبل باي شيء وكل شيء ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان يطمئن الأب على وضعية وعدد النقود الجديدة التي سيدسها في يد ابنائه بعد رجوعهم من دوار التكبير وفيض السلامات والتهنئات المتبادل بين الغرباء قبل الأصدقاء ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان يعد باعة الصورايخ والبمب وغيرها بضاعتهم البسيطة من اجل الصباح حيث تجرب ايديهم الخشنة المعطرة بالعرق لذة ملامسة الورق الناعم الفاخر لتلك النقود ..
يحدث احيانا في العيد ان تتعطل شبكات المحمول وينشغل الهاتف لساعات فالجميع قد تذكر الجميع فجأة او هم بالأحرى كانوا بحاجة لمبررات محايدة كي يجهروا بالتذكر ..
يحدث احيانا في العيد ان لا يستطيع قاطنو الأحياء الشعبية من النوم حتى الصباح من حروب صغيرة تدور بالشوارع وصرخات فرح يرونها غير مبررة لكنها مقبولة دوما ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان تتكدس السيارات وتتعطل الطرقات بينما يزداد صوت ضربات ايدي باعة المناديل الورقية على زجاج السيارات المغلق في لامبالاة الإعتياد ..
يحدث احيانا في ليلة العيد ان يكون احدهم وحيدا فيجلس ليكتب عن ليلة العيد !

السبت، 19 سبتمبر 2009

الحاكم والمحكوم ما بين الحرية المسئولة والفوضى




سيكولوجية السلطة .. العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم .. نوازع المتسلط ودوافع ظواهره السلوكية .. السلوك الإرتدادي للمحكوم ونظرته للحاكم .. متى ولماذا يتقبل ما يتم فرضه ومتى يثور .. قضايا شائكة وبحاجة الى اكثر من مقالة او موضوع عابر .. وبحاجة ايضا الى قليل من ( التجرد ) واقصاء الخبرات السابقة.
حسنا .. من الأفضل ان نتناول الظاهرة من اساسها المجرد .. السلطة بوصفها علاقة ثنائية بالضرورة تستلزم حاكم ومحكوم .. سلطوي ( وليس متسلط ) ومنفعل للسلطة او يقع تحت مسارها.
السلطة بوصفها تجسيد للقيادة او الحكم او حتى السيطرة والهيمنة ( في معناها الأسوأ ) تستلزم من ضمن أدواتها القانون او الأعراف او الأحكام التي تقوم بتسييدها بصورة عامة ومتساوية للجميع ( في حالة السلطة النزيهة ) ولكن هل تكفي النزاهة بمعناها الذي ينبذ المحاباة .. طبعا لا .. فيجب ايضا ان تكون تلك القوانين ( أداة السلطة ) محل موافقة المجموع ( او اغلبيته بالمعنى الديمقراطي ) سواء عن طريق المشاركة في وضعها او تأييدها بحكم الإختصاص وهو ما يحدث الآن بصورة غالبة في المجتمعات او (التجمعات) التي تنتهج آلية ديمقراطية.

المحكوم
والآن الى الجانب الآخر من المعادلة .. المحكوم .. وهو من تمارس عليه السلطة أدواتها وآلياتها التنظيمية .. من نافلة القول التأكيد على طبيعة احسبها غريزية للعقل او الذات الواعية وهي التمرد بصورته القبلية ورفض الهيمنة والحد من القيود والحريات .. جميل .. ولكن هل هناك قانونا مهما كانت عدالته وخلوه من الثغرات ينجح في تحاشى منح هذا الشعور بالتقييد في نفوس المحكومين .. اجيب بيقين لا .. فالقضية نفسية في الأساس والقانون طالما كان بصيغة جيدة وبعيدا عن المماحكة مع ذواتنا ولا نتضرر منه او يطالنا يكون ممتازا او بمعنى اصح كأنه غير موجود اصلا .. الإشكالية او لنقل الشعور بالتقييد والتسلط ومحاولة فرض الآخر لرأيه تبدأ عندما يصطدم الفعل او القول الذاتي للفرد بما هو موجود من قوانين او آليات تحكم المجتمع او التجمع الواقعي او الإفتراضي .. فتكون النتيجة هي اما ان تنجح فكرة او قيمة ( اعلى ) في السيطرة والحد من التعبير عن التمرد او العصيان بوعي المحكوم ولتكن مثلا قضية كالحرية المسئولة او الإلتزام او الجهد التنويري .. او ينزلق الوعي الى ممارسة تمرده ( المشروع بالمناسبة ) على ما يراه تقييدا لحرية فعله او قوله اما درجة وقوة ومسار هذا التعبير يكون محددا بعوامل كثيرة منها درجة استيعاب المتمرد وصفاته الإنفعالية ومدى حرصه على البقاء ضمن المجموع فضلا عن إخلاصه واقتناعه بما سبق ذكره من قيم وافكار اعلائي.

السلطوي
نعود مرة اخرى الى السلطوي .. ولنتناول تلك المرة شقه الأسوأ وهو ( التسلط ) بوصفه تطرفا في استخدام السلطة ومحاولة فاشية نحو القمع او فرض الذات على الآخر بما يلغي وجوده او على الأقل يهمش رأيه ويقصيه
ماهي ملامحه؟ وكيف يمكن لنا توصيفه بصورة صحيحة دون الإنزلاق الى خطأ المغالطة او التطرف الموازي في النقد ومن ثم التمرد!
ملامحه دوما تشكلها القرارات الفردية والتي تصدر بصورة مفاجأة ودون تنسيق او محاولة لإشراك الآخر في صياغتها .. واهم خطيئة يقترفها هي عدم العدول عن رأيه ابدا حتى ولو تبين له بصورة واضحة خطأه فضلا عن إضراره بالمجموع .. حسنا .. وهل يندرج تحت بند المتسلط القائد او السلطوي الذي يصر على تطبيق ما هو راهن من قوانين والتزامات .. اؤكد لا .. بل على العكس .. يكون من صميم عمله وأولوياته هو الحفاظ عليها والحرص كل الحرص على تفعيلها وعلى الجميع وبالطبع نفسه .. وان حدث العكس يتحول الى النقيض المقابل للتسلط وهو التسيب او عدم الأهلية مما يوجب اقصائه ايضا .. اذن من الواضح ان السلطة الأرقي هي لاعب سيرك ماهر يسير على حبل رفيع مشدود ما بين التسلط والتسيب!

نحو نظرة اعمق لقيمة الحرية
الحرية المطلقة حلم اجمل .. لكنه للأسف مستحيل .. خاصة في ظل وجود تعقيدات مجتمعية واعتبارات مشتركة وإرادات مختلفة بطبيعتها .. كل القوانين والفلسفات حاولت جاهدة التوصل الى صيغة كونية يتم من خلالها إرضاء الجميع وتحقق حرية الجميع .. وفشلت واتوقع ان تفشل ومصدر الفشل ليس متعلقا بخلل في الحرية بل هو متعلق بطبيعة النزاع والإختلاف البشرية .. حتى يوتوبيا افلاطون وتوماس مور وغيرهم لم تنجح في منح ايقونة الحرية المطلقة للجميع لاستحالتها.
لكن يبقى هناك الحد الأدنى من التوافق والمواءمة وهو ما يسمى بالحرية المسئولة .. والتي تعني في ابسط تعريفاتها هو ممارسة حريتك بما لا يتقاطع او يتعارض مع حريات الآخر .. والجميع انا وانت والآخر وحرياتنا هي قيد تنظيم وانصهار ببوتقة تسمى القوانين العامة التي تم الموافقة عليها سلفا من قبل اغلبية واعية .. بينما التمرد رغم كونه قيمة تؤرق دوما اي سلطة مهما بلغ كمالها حقا اصيلا للذات الواعية بل وعامل تميز ودافع للإبداع .. ولكن شريطة ان لا تتحول الى فوضوية وعامل هدم .. هدم للذات قبل الآخرين. .

الى درويش .. متأخراً جداً كما يليق بلاعب نرد غير محترف!



أحمد الخيّال
19/9/2009


درويش..
منذ ان فارقتنا جسدا وانا لا اجرؤ على رثائك او الكتابة لك برغم إخلاص الكلمات لي دوما في الحضور ..
كلاعب نرد غير محترف كنت استمع لك دوما .. مرة واحدة عينا لعين .. ولامنتهى مرات عبر كل وسيلة ميديا متوفرة .. والآن .. حيث تعانق العدم .. دون تموجات للياسمين او ألق لزنابق طرزت بها وشاحك الشعري الحريري المجعد بالألم .. لم أعد اجد بنفسي سوى احمد الزعتر / احمد العربي .. يعانق وحدته بالخندق !

ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ علي خشبات المسارح ِ

هي خطيئة شائعة ان يتم اختزال شاعر في قصيدة .. ثم ان يتم إختزال شاعر وقصيدة في مقطع .. تماما كما ( لن ) افعل الآن ..
لاعب النرد .. من قصائد درويش المتأخرة زمنيا المتقدمة قيمة وحرفية وصدقا، يسطع بصورة رئيسة بها تكنيك مميز لدرويش في اللجوء الى التعبير الشعري عن طريق ما يسمى بمجامع الكلم اي تلك المقولة القائمة بذاتها والتي تحاول التفسير او الوصف وتدعي قدرتها على الصمود امام طبيعة يتميز بها الزمن وهي النسيان ..

المقدس .. والآخر .. ووهم الإنعتاق .. بدت افكار تلح في كلمات درويش المتأخرة بجرأة مغلفة ببراعة المجاز الشعري ومتمترسة بسيّال وحشي من اللذة الشعريّة الحقيقية بينما كان الموت والوحدة كمترادفان يشكلان إطار اللوحة في المنفى الدافيء ..

نعم درويش .. من سوء حظ المؤلف ان الخيال هو الواقعي على خشبات المسارح .. ومن سوء حظك انت ان الخيالي هو واقعي تحت الركام بينما الممكن هو خيالي بوعي ودهشة الآخرين .

للإستماع الى ( لاعب النرد ) بصوت واداء درويش وهي بالمناسبة تجربة أخرى وتفردا آخر له تميز به عن طريق ادائه التخيلي وطريقة مخارج الفاظه التي تضيف للكلمة الصماء بعدا إضافيا يتجاوز بالنص حد الكمال !

 



السبت، 8 أغسطس 2009

الله في حقيقته هو الإنسان

مقدِّمة في ضرورة ممارسة الوعي الكوني 

أحمد الخيّال

8/8/2009

فكرةُ الإله (أو الآلهة) فكرةٌ تطورتْ بتطور العقل البشري على امتداد الزمن، بدءًا من تقديس الظواهر الطبيعية ومحاولة استرضائها بتقديم القرابين وإقامة الطقوس الدينية السحرية. وكلما ارتقى الجنسُ البشري قليلاً على سلَّم المعرفة تطورتْ معه فكرتُه عن الإله وشكلُ علاقته به: فمن الطوطمية، إلى التعددية (مجمع الآلهة الإغريقي، مثلاً)، إلى بذور فكرة التوحيد الفرعونية (ممثلةً في أخناتون وعبادة "آتن" الشمسية)، وأخيرًا وليس آخِرًا، الإله في طبعته الأخيرة بنسخته الإبراهيمية.

أشواط التطور تلك في فكرة الإله، بالطبع، لم تشكِّل مراحل حادة في تميُّزها وتدرُّجها، بل تداخلتْ معها انتكاساتٌ فيها مزجٌ بين العديد من أشكال العبادة. ولكنْ بقي الأمرُ في كلِّ الأحوال مرتهنًا للثقافة والمعرفة البشرية السائدة، المحكومة بما يفرضه الزمانُ والمكان، وأيضًا الحاجةُ البشريةُ التي تحدِّد صورةَ ذلك الإله وماهيتَه بناءً على تنوع رغبات تلك الحاجة في المقام الأول. يقول فويرباخ في كتابه جوهر المسيحية:
"إن اللاهوت هو الأنثروپولوجيا، وإن ما يتبدَّى في الدين كربٍّ ليس سوى جوهر الإنسان نفسه."

بذلك تتحول عبارة إن الرب "خلق الإنسان على صورته" (سفر التكوين التوراتي) لتكون: إن الإنسان هو مَن خلق ربَّه على صورته (ڤولتير). ومعنى تلك العبارة هو أن حقيقة فكرة الإله في اللاوعي هي إرهاصاتُ تصوُّر الإنسان ذاته عن جوهره، ولكن في صورة تَعالٍ ومفارقة، تجسيدًا لكائن علوي أسماه "الرب" أو "الإله".

حسن إذن: بات واضحًا الآن أن الإنسان هو المبتدأ والمنتهى. وحتى عندما نكون في صدد تعريف أكثر أشكال الوجود تعاليًا عنه ومفارقةً له – وهو الإله – نسأل: مَن هو هذا الإنسان؟ وهل نستطيع حقًّا أن نجيب عن هذا السؤال؟

قرد أم ملاك؟
كانت هذه هي الأطروحة الأشهر منذ العصر الڤكتوري كلما طاول الحديثُ محاولةَ وضع تعريف بالإنسان يرتكن في صورة واضحة على ما اصطُلِحَ على تسميته بالأخلاق. ولعلَّه رَجْعُ صدًى لتساؤل داوود الشهير في مزموره الثامن عن ماهية الإنسان، الذي انتهى، بطبيعة الحال واتساقًا مع مساره، إلى أن الإنسان هو كائن "دون الإله قليلاً" وهو "مكلَّل بالمجد والكرامة". فهل يصلح ذلك الحكمُ الطوباوي الميتافيزيقي للحكم على الإنسان التعس، مفجِّر الحروب وصانع القنابل الذرية، السفاح المغتصب الذي "يفسد في الأرض ويسفك الدماء" (سورة البقرة 30)؟

في الواقع، جاءت النتيجة، في المقابل، أن الإنسان هو كائن أرقى من الحيوان قليلاً. و"قليلاً" تلك قد تصلح مبررًا لأكثر توجهات الجنس البشري ونشاطاته علوًّا وارتقاءً: إنه ذلك الوعي المزدوج بتجاوُر وجود القرد ووجود الملاك في الإنسان، وبمحاولة "قتل" القرد وتمثُّل صفات الملاك (أو الإله)، الذي هو في حقيقته الإنسان.


القرد (أو الشيطان) هنا يجب عدم النظر إليه على أنه موجود حقيقي أو ميتافيزيقي، وبالتالي يتطلب وجود الندِّ أو الضدِّ له، أي الإله (أو الملاك)، بينما يصبح الإنسان، كما قدَّمتْه الكتبُ المقدسة، مجرد "ميدان صراع" بين الخير والشر في اختبارٍ يستتبعُه ثوابٌ أو عقابٌ أبديان؛ بل إن هذا القرد (أو هذا الشيطان) هو ذلك الإنسان الأول، البدئي، الذي "قتله" الإنسان، أو لنقل في عبارة أكثر علمية، إنه قدتجاوَزَه ليخلق نفسه من جديد. وهذا الخلق الذاتي هو عملية تتصف بالاستمرار واللانهائية، لكنها، لسوء الحظ واتساقًا مع طبيعة الاختلافات بين البشر، تمضي دومًا في مسارات غير متساوقة، أي لا يتساوى البشر جميعًا في تحقيقها أو حتى الرغبة فيها. وهذا، في جوهره، أعمق سبب ممكن لتبرير الصراع!

عندما أعلن نيتشه موت الإله
موت الإله النيتشوي قد يكون تبشيرًا بتجسد ذلك "الإنسان الأعلى" وتحقُّقه، الإنسان الواعي بمقدراته وجوهر إنسانيته، ذلك الكائن الذي يمارس ماهيته من خلال وجود حقيقي، لا "وجود زائف" بالمفهوم السارتري، أي من خلال وعي كامل ونافذ لأعماق الوجود الشامل ولمسارات المعرفة أيضًا.

والسؤال الأكبر هو عن كيفية هذا التحقق. والجواب عنه لن أدَّعي أن تلك السطور القليلة سوف تمنحه لقارئها، كوني أؤمن يقينًا بأن جلَّ فلسفات الجنس البشري، في انكساراته أو في نقاط إشراقه، كانت محاولاتٍ لتقديم الإجابة عن هذا السؤال، في صورة أو في أخرى، واعية أو حتى غير واعية. ما يمكن لي التأكيد عليه فقط هو أن في الاهتمام لتعاطي هذا السؤال بدايةَ الطريق نحو هذا التحقق، هذاالخلق الذاتي اللانهائي من الإنسان نحو الإنسان، أي نحو نفسه.

وأنا هنا لا أتحدث عن أطروحات حالمة تتطلب من معتنقيها اهتمامًا بالآخر على حساب الذات، لا بل تفترض هذا الارتباط بالآخر في إطار علاقة تبادُل للمصلحة مبتذلة في مضمونها هي، في حقيقتها، نمط من أنماط تعبير الذات عن أنانيتها ولهاثها الأبدي وراء اجتلاب اللذة وتجنب الألم.

أنا أتحدث، أو أحاول أن أتحدث، عن وعي كوني وممارسة وجودية حقيقية ودوافع ذاتية للارتقاء تخرج بالنوع البشري من دائرة ضيقة – هي، قياسًا إلى صيرورة الوجود الكوني، "لاشيء" بالمعنى الحرفي للكلمة – نحو تمثُّل هذا الوجود نفسه والشعور الكلِّي به ومحاولة تغييره وتطويره. إنه خروج بالسبب والهدف من ابتذال قسمة ميتافيزيقية في أساسها، تتمحور حول اللذة والألم وحسب، نحو مسار وحيد صاعد ليس في داخل الوجود، بل في الوجود نفسه!