السبت، 27 نوفمبر 2010

التنوير والإلحاد والإيمان .. علاقات شائكة




أحمد الخيّال
الأوان
27/11/2010




لنتذكر، أوّلا، ما المقصود بالتنوير:
يمكننا رد تلك القيمة الأعلى بمفهومها الحديث إلى حقبة مضيئة في تاريخ الجنس البشري، وهي ما تعرف باسم عصر التنوير ( أو الأنوار ) Age of Enlightenment والتي شهد القرن الثامن عشر اندلاع شرارتها وتوهجها على يد عقول حرة لفلاسفة ومفكرين وأدباء قاموا بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة.. وذلك على الرغم من وجود إرهاصات سابقة على ذلك التأريخ لمحاولات كان فيها التنوير يسعى لبلورة مفهوم وأطر عقلية خاصة به تميزه وتحدّد مساراته.

ويحفظ لنا التاريخ أنّ (ديكارت René Descartes ) ذلك الفيلسوف الفرنسي الأشهر الذي عاش ما بين عامي (1596و1650) هو أوّل من استخدم مصطلح التنوير بمفهومه الحديث وذلك في معرض حديثه عن ( النور الطبيعي ) من حيث كونه في جوهرة هو تجسيد للحقائق التي يمكن للإنسان أن يقتنصها بواسطة إعمال عقله . إلا أنّ مفهوم التنوير الديكارتي لم يستطع التخلص من الأصداء الميتافيزيقية التي يحملها بطبيعة الحال.. ويمكن لنا أنْ نعتبر تلك المقالة الصغيرة التي قام بكتابتها الفيلسوف الألماني المفصلي ( إيمانويل كانط ) تحت عنوان ( ما هو التنوير؟ ) بمجلة برلين عام 1784 هي بداية الفصل التامّ والواضح الصارم ما بين التنوير كمسار عقلانيّ حرّ وما بين اللاهوت المسيحي وملحقاته من هيمنة لرجال الكنيسة وسطوة الخرافة والجهل . يقول كانط : " التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حقّ نفسه.. وهذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر.. ويقع الذنب في هذا القصور على الإنسان نفسه عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل .. وإنما إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام عقله بغير توجيه من إنسان آخر.. "

والملاحظ في هذا التعريف الكانطي أنّ الإنسان هنا يمتلك قابلية طبيعية للتفكير ثمّ الاحتكام إلى هذا التفكير .. إلا أنّ ما يعوق هذا التفكير هو عدم الثقة بعقله كمحك ومعيار مما يجعله يلجأ إلى الارتكان على المقولات والمؤسسات التقليدية التي تتحمل عبء تلك الحرية المفزعة عنه .. سواء كانت دينية أو سياسية أو حتى اجتماعية. وأيًّا كان الأمر، فإنّ في هذا الإعلاء من قيمة العقل الإنساني ردّ اعتبار بعد طول استلاب وتهجين وأدلجة ممّا يؤطر لقيمة التثوير كمنتوج منطقيّ، وهو ما كان بعد ذلك في نموذج الثورة الفرنسية مثلا والتي استلهمت مبادئها من عصر التنوير بوهجه العقلاني النازح نحو التحرّر وإقصاء التقليدي والرجعي والظلاميّ. ولكن هل التنوير هو فعل فردي ذاتي يتعلّق بمدى قابلية واستعداد كلّ شخص بحسب مكوناته الداخلية وظروفه الخارجية أم هو ضرورة تاريخية حتمية بالنسبة للجماعات والشعوب ! محاولة الإجابة على هذا السؤال ستقودنا تلقائيا إلى ضرورة معرفة علاقة فعل التنوير ذاته بكل من الإلحاد والإيمان.

التنوير والإلحاد :
ثمّة فروق عديدة وجوهريّة ما بين الإلحاد والتنوير. فالإلحاد هو موقف شخصيّ وقضيّة ذاتية للملحد رافضة للمقدّس وملحقاته ( الله، أديان، جنة، ونار ) قد تبنّى على العلم والعقل وتفعيل المنهج النقديّ أو على العاطفة والتجارب الشخصية السيئة وربّما كردّة فعل متمرّدة على إحساس الملحد بتقييد حرّيته. بينما التنوير هو مسار وجهد نهضوي يضع دوما أمامه الآخر سواء كمجتمع أو كفرد، وهو فعل إصلاحي شامل لجميع مناحي الفكر والحياة ويجب أن يكون دوما بنّاءً كي يستحقّ وصف التنوير الحقيقي لا الزائف. التنوير يحتوي الإلحاد وغيره، بينما الإلحاد هو مجرد موقف فكري أو شخصي من المقولات السابق ذكرها، وهو في أفضل وأعلى ممارساته تفعيل لقيمة العقل والعلم القصوى. ليس كلّ ملحد تنويريّا. وليس كلّ تنويريّ ملحدا. هذه هي القضية، ببساطة .

التنوير والإيمان:
التنوير الحقيقي ليس توجيها للعقل أو ممارسة للنقد بالإنابة عن الآخر وليس (فقط) تمحورا حول نقد الأديان، بل هو في الأساس زرع لقيم العقل والنقد وتعريف بالحقوق والواجبات. إنْ يقتصر الجهد التنويري على نقد الأديان والهجوم عليها مهما كان محمولا فوق موضوعات ودراسات غاية في العقلانية والعلميّة والتماسك اللفظي والمنطقي فهو مسار تنويري ناقص لا يعني بتقديم البديل العقلاني، وهو مجرّد هدم حتى وإن كان مطلوبا إلاّ أنّه ينقصه توازي البناء. إنّ التنوير لا يحمل بين طيّاته رغبة جوهريّة في القضاء على الأديان، بل هو فقط يسعى نحو نزع المسارات الإقصائية منه وجعله ( كالإلحاد ) قضية شخصيّة لا يتدخل في مقدرات الشعوب وحياتهم ويتحكم في موقفهم وعدائهم او انسجامهم مع الآخر على خلفية مسبقة من مذهب أو طائفة أو عرق . هذا الطرح، أيضا، يتّسق مع حقيقة تقول إنّه - حتّى لو كانت الأديان نتاجا بشريّا - فقد تم إفرازها من الوعي البشري لتحسين وضعه على الأقل في ما يتعلّق بالشقّ الاجتماعي والأخلاقي، وبالتالي يمكن التعامل معه في أدنى الحالات على أنّه ميراث فكريّ للعقل البشري يخضع للنقد والتحييد أو الاستفادة. وهذا هو المقصود تماما بالقراءة العصريّة للموروث الديني. التنوير هو ممارسة إنسانية مفتوحة من الجميع على الجميع بما فيه خير الجميع. بينما وعلى الجانب الآخر يجب أن يعي المؤمن جيدا أن الآلهة والأنبياء والأديان وكلّ مقدّس ليست بحاجة إلى سيوف تدافع عنها بقدر ما تحتاج إلى عقول تنويرية كي تنزع منها مسارات الإقصاء وتجعلها أكثر قابلية لتقبل الآخر وأكثر قدرة على ممارسة النقد الذاتي وبالتالي أكثر موائمة للإسهام في انتشال مجتمعاتنا المأزومة من نفقها المظلم الغارقة به الآن .

مؤمنون أو ملحدون:
لتتعاطى مع شعار التنوير على أنّه مجرّد المنهجيّة أو الشرارة الأولى لأي عمل نهضوي مبدع وخلاّق فالتنوير ليس فلسفة أو نسقا معرفيّا وهو بالتأكيد ليس خطة تمّ وضعها مسبقا مجربّة ومضمونة النجاح بأي مكان وزمان. هو مجرّد حالة تطوير تشي عن نفسها من خلال الإيمان بالقدرة على التغيير، وتتخذ لها تمظهرات متغيّرة. ولذلك فهو يتسع لكل ما أقوم بمحاولة إعادة صياغته من خلاله بقدر ما أشعر أنه واجب الاهتمام أو دافع للنهضة.

بصورة أوضح، محو الأميّة تنوير. جمعيات حقوق الإنسان تنوير. الأدب والفنّ الهادف تنوير. السلوك الشخصي الراقي للفرد وسط محيطه تنوير. التظاهرات والحركات التحرريّة تنوير. وهكذا إلى لامنتهى تمظهرات للحالة التنويريّة. هنا، أيضا، أرجو أن تبرز ملاحظة أنّ التنوير يتمحور من وجهة نظري من خلال القاعدة لا رأس الهرم، وعن طريق دفع مساعد لتنظيمات جماعيّة أو جهود فرديّة تنتمي لنفس المجتمع وتشعر باحتياجاته. والتنوير كما أنّه سبب فهو أيضا، نتيجة. فهو بلورة لوعي فردي وجمعي بضرورة التغيير. وهو منتوج إرهاصات وتجارب للشعوب ما بين الأزمات والصدمات والانتكاسات والانتصارات والإشراقات. وهو في الأساس وعي باللحظة الراهنة، أي تجاوز للماضي دون تجاهل أو إقصاء، ووعي بالحاضر بمتطلباته وأزماته وخصوصيّة مرحلته، واستشراف للمستقبل يتّصف بالشجاعة والثقة في القدرة على التغيير الذاتيّ.