الحديث عن "منى جبّور" وما اندره لا يخلو دوما من استدعاء الدهشة حينا والمرارة احيانا ..فتلك الحالة الروائية والفلسفية المتفردة لم تحظ ابداً بما يليق بموهبتها سواء على المستوى النقدي او على مستوى الذاكرة ..وكأن القدر يطارح عمرها القصير جدا الغياب فكانت الومضة التي تتوهج سريعا ثم تمضي نحو الجانب الآخر من صخب الحياة.
ولدت "منى جبّور" في 15/8/1943 باحدي
القرى الصغيرة (القبيات) التي تقع على اطراف بيروت حيث تلقت تعليمها الإبتدائي ثم
المتوسط في المدرسة النموذجية في "فرن الشباك" قبل ان
تلتحق بدار المعلمين ..لفتت الفتاة الصغيرة المتطلعة الإنتباه بوعي مختلف جعل كل
من حولها يتنبأ لها بمستقبل مشرق ..وكانت السمة الأكثر وضوحا لها هي التمرد وهو ما تجلي
بعد ذلك في نصوصها القصصية والروائية وايضا مقالاتها ..ذلك التمرد الذي اتضح في
رغبتها المحمومة وسعيها الدؤوب للانتقال الى بيروت والانخراط بكل حماس في الأوساط
الثقافية فأصبحت وهي بعد على تخوم العشرين من عمرها سكرتيرة تحرير مجلة الحكمة
وكاتبة دائمة بصفحة الأدب النسائي بجريدة النهار اضافة الى انخراطها في العديد من المؤسسات
الثقافية كالندوة اللبنانية والمنظمة العالمية لحرية الثقافة وجمعية اصدقاء القصة
وغيرها.
ولأن التمرد الحقيقي والذي ينبع من ذات
الوجع بالوجود يمتد لأكثر من طريقة في الحياة او فحوى بالنص فقد جاءت نهاية حياة
"منى جبّور" القصيرة معبرة عن هذا لتصفعنا بقسوة الإعتراض عندما تم
العثور على جسدها الرقيق بصباح 24 يناير عام 1964 مسجى في وداعة الموت/القرار اثر
الإختناق بالغاز لتتركنا الكاتبة الشابة كما كانت توجد بحياتها النضرة جملة اعتراض
كبيرة على المجتمع بكل اقانيمه وافكاره البالية.
رحلت "منى جبّور" طوعا لعالم
افضل تاركة ورائها روايتين .. "فتاة تافهة" وقد كتبتها وهي في سن
السادسة عشرة واخرى مخطوطة لم تنشر الا بعد موتها وهي " الغربان والمسوح
البيضاء" اضافة الى مجموعة من القصص القصيرة والمقالات الادبية والنقدية
للأسف لم يتم حتى هذه اللحظة بذل اي جهد نحو تجميعها واعادة اصدارها في طبعة خاصة
تنقذ سيرة كاتبة عظيمة من مصير النسيان.
فتاة تافهة.. تفاهة الوجود بواقع مهتريء
"انني أكره هذا الجسد، اشعر نحوه باحتقار
هائل وبغض جارف..كلا.. بل احبه، أحبه. أحبه لانه سيبقى سليما وحرا، لي، ولن يتعرض بعد
الآن ليضاجع خيال ذكر"
يشي هذا الاجتزاء من مونولوج داخلي يغص
به نص "فتاة تافهة" من خلال وعي بطلة الرواية "ندى" عن احد
الأفكار الأساسية او لنقل الجحائم التي يتقلب بها وعي ووجود الكاتبة الراوية او
الشخصية المروي عنها فلا فارق كبير!
كانت تمرد "منى جبّور" من
خلال نصها الروائي "فتاة تافهة" متحققا على عدة مستويات وبصورة خالصة
..ليس فقط على مستوى الأحداث او الشخصية الروائية كما قدمتها من خلال فتاة في
الثامنة عشرة من عمرها تواجه المجتمع بكل غلاظة احكامه المسبقة على وجودها الانثوى
المستباح والمهمش والمقولب في صيغة اختصار الغواية او التحريم بل ايضا جاء على
مستوى بنية النص ذاته واللغة الصادمة والتي تثور هي الأخرى على رصانة مفتعلة كانت
هي السائدة وقتها ..فنجدها تصف المعلم بالكذّاب.. الوقح.. الخنزير الوسخ.. هذا
مستوى من مستويات تفكيك احدى صور العلاقات البطريركية نجد له تفتيتا للمنتهى عندما
تصف اباها بالثور الخائر!
بينما جاء الارتكان بصورة اساسية على
المونولوج الداخلي القصير والعميق المحاط بالصمت او الظلام او روح الكآبة - كأحد
مظاهر التأثر بأدب العبث واللامعقول – في بنيته مفعما بالمشاعر النارية والصخب
الذي يعلو صراخه على ضجيج العالم العبثي على نحو اشبه بشخصيات "البير
كامو" فتتكرر عبارات تمزق ركود العالم والذات : "أمزّق جسدي ..احترق
بالنار .. صراخ يفتّت الجدران" لتتخذ عملية الكتابة هنا صورة مختلفة من صور
مجابهة العالم بترسانة محرماته وقوانينه الاجتماعية على مستوى المتخيل من مستوى
المحي عنه او على مستوى الواقعي من مستوى المحكي به اي آلية الكتابة.
الأدب بوصفه إعادة انتاج للوجود
يصف "يونسكو" الكتابة بقوله
: "الكتابة هي "تحرير للمكبوت في النفس والأدب ظاهرة عُصاب! " وذلك
للتعبير عن القلق الوجودي والضيق الميتافيزيقي. بينما تفصل "منى جبّور"
الأمر بوضوح اكثر في آخر حوار معها عندما تقول : " الأدب حكم عليّ... جميع كتاباتي
تنفيذ رغبات تخنقني عندما تلج. وأنا في كل نوع من الكتاب أنفذ رغبات معينة وحاجة خاصة.القصة
القصيرة والقصيرة مثلاً أكتبها عندما يغمرني إحساس عنيف وقصير، يملؤني بسرعة ويهزني
بسرعة فأعبر عنه بسرعة وأرتاح. أما الرواية فأبحث معها عن الحياة بأكملها... ألوذ إليها
عندما أفتقد العالم فأخلقه. لذا فالرواية مغامرة في حياتي تؤثرعليّ. تنقلني لمدة بعيدة
إلى عالمها، إلى أجوائها إلى عقدها وأحداثها وأنا أحياناً أجدني أسخف بكثير وأعطل بكثير
من أن يكون لي عالم معين فأعجز عن كتابة رواية."
ترى هل نفذت الحكاية ام وهن صوت الراوي
حتى تخرج الينا بفصل أخير من رواية بعد لم يكن مقدرا لها ان تنتهي ؟ هل غادرها
العالم فغادرته ؟ ام هل كانت تطمح لمعاينة عالم اوسع من مخيلة الراوي والرواية ؟
دائما ما يكون الحق في الاختيار هو جوهر قيمة التمرد ..فهل بصورة عبثية ايضا تحول
العجز عن فرض الاختيار الذاتي الى مقامرة بالحق في الوجود ذاته ؟ ربما ..فهو بجانب
منه فرضا وليس اختيارا !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق