أحمد الخيّال
الأوان 25/4/2008
في روايته ( القافز فوق الجدار ) يتساءل الكاتب الألماني شنايدر Peter Schneider عن ما إذا كانت العزلة النفسية للألمانيين سوف تنتهي حقا بانهيار الجدار نفسه ..
وتحتوي الرواية ( النبوءة ) على قدر كبير من الواقعية ومن السخرية الموجهة إلى طبيعة الحياة اليومية في شطري مدينة برلين قبل عام 1990..
وتجاوزا للراوي المجهول حتى النهاية ومع معاينة وقائع محاولات عبثية مضحكة ومبكية في آن واحد من أبطال الرواية الذين يحيلون لشخصيات ميلان كونديرا في طبيعتهم المعقدة والمركبّة فسوف ينتهي القارئ إلى تلك الحقيقة المؤلمة في صدقها :إن الكثيرين يمتلكون فرصة الاقتراب من بعضهم البعض .. فكريا أو جسديا.. إلا أنهم يخفقون في التواصل بسبب عدم معرفتهم بما سيحدث لدى الآخر من ردود أفعال أو بما يجول في أذهانهم من أفكار ورغبات .. جدران غير مرئية ..
إن الحواجز الإسمنتية التي تفصل بين الناس ليست أكثر خطورة مما يترتب عليها من آثار مدمرة تتبلور جميعها في صورة معاناة نفسية يكون أحيانا من المستحيل إزالتها من النفوس..
إنها تلك المعاناة التي ننتجها بأنفسنا عندما نخفق في تفهم الآخر ..
إنها أشياء تفصل بيننا .. على الرغم من عدم وجود حواجز مادية مرئية تبرر تلك القطيعة وهذا الإقصاء .. وهي اشد متانة ورسوخا ولا يفلح في سبيل إزالتها التفجير أو الهدم بل ( وللمفارقة ) فقط وحده هو البناء الذي يزيلها ! عزيزي القارئ ..
جرب لمرة واحدة أن تسائل نفسك ( بصدق وتجرد ) كم من جدار أقمته أنت أو على الأقل سمحت له بالانتصاب ما بينك وبين الآخر ..
بل وكم من جدار يحتل حياتك ( حياتهم ) ويقسمّها إلى لا منتهى مدن معزولة تتصارع أو على الأقل تتعاطي التجاهل و الإقصاء ..
هل تشعر بوجوده !
هل تعاني من برودة أحجاره القاسية !
هل تدرك حقا ماهيّة ذلك الجدار !
ثم ( وهو الأهم ) هل ترغب حقا في إسقاطه !
عندما تغامر بالسؤال عن الجدار .. عن وجوده وطبيعته ومدى الرغبة أو القدرة على تجاوزه .. ستكون كثيرة هي الإجابات المتوقعة .. وشحيحة إلى حد الندرة الإجابات المنتظرة .. ومراوغة التحول بين أنماط الجدران المختلفة هي نفس مراوغة الفارق الدقيق ما بين المتوقع والمنتظر !
للكلمة الواحدة مدلولات مختلفة .. تتباين بحكم طبيعة تباين الوعي وطرائق تناوله للأفكار ومفاهيمه ومنطلقاته الذاتية أو المهيمنة بحكم الارتكان على الاعتياد ..
لذلك كان ( المتوقع ) هو أن يتم التعاطي مع الجدار بوصفه خطّا دفاعيا او إفرازا ذاتيّا فطنا لتجنب شرور الآخرين أو حتى فاصل طبيعي له مبررات وجوده ما بين البشر ..
وأسباب ( المتوقع ) هنا تتجاوز ولا تعني دوما أيضا مجرد وجود قصور مفاهيمي أو حتى خلط بين تلك المفاهيم .. بل وهي حتى أعمق من مجرد جدلية يحكمها الصراع لطرائق ومناهج مختلفة للحياة وللتعاطي مع مفرداتها ..
إنها ( مع الاعتراف بضرورة التحلي بأكبر قدر من الشجاعة او الإدعاء ! ) ترجمة وانعكاس لقيمة جوهرية تتداخل في تكوين الذات الإنسانية وملحقاتها من وعي وشعور وأيضا لا شعور .. القيمة هي : الفردية والنزوح نحو الاستقلالية كأحد صور التحرر اللاشعورية.
ورغم النتيجة المدهشة التي قد نصل اليها من ان تؤدي بواعث تحررية في أصلها الى الجمود في نهايتها تحت وطأة سيّال لا يتوقف من الأدلجة والدوجما وتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة ..
إلا ان في مجرد كشف الغطاء عن وسائل تحقق وعوامل بناء تلك الجدران غير المرئية لهو في حد ذاته ( ضربة المعول الأولى ) لهدمها ومن ثم بلوغ فضاء بلا حواجز بالنسبة للوعي والفكر البشري .
مجرد نقوش على الجدار
عندما كان أفراد النوع الإنساني يختبرون أولى خطواتهم الحبلى بالدهشة على أرض هذا الكوكب لم تكن معطيات وفروض الواقع تسمح بممارسة قدر كبير من التوحد والتمحور حول الذات .. كذلك لم تتبلور بعد الظروف الشرطية كي ينتج ذلك الوعي الوليد لذلك الموجود الاستثنائي مساراته الفكرية والاجتماعية التنظيرية او المعاشة .. كان الإنسان ربما ينعم بالبساطة غير المبتذلة والتي تعني كمون الأسئلة تحت سطوة الحاجة إلى الوجود أولا ثم ضمان استمرار هذا الوجود ثانيا.
تساقطت الفصول .. ومضى الزمان بالتوازي مع تكاثر الإنسان فتطورت أشكال وأنماط علائقه وتراكمت خبراته الواقعية ومن ثم اكتسب الوعي زخما وبدأ في تعاطي الأسئلة بل وتجرأ أخيرا فبدأ في محاولة تقديم الإجابات عنها .. الاختلاف وليد لمجتمع الوفرة .. ربما .. لكن ايضا لا يمكن الإدعاء بوجود دراسة نافذة لذلك الوعي قبل تحقق تلك الوفرة .. لكن المؤكد .. هو إمكانية قياس ذلك الفارق والتحول.
حسنا .. ما هو المعنى الذي أحاول إسقاطه من خلال تلك ( الثرثرة ) على كلمة الجدار ؟
بأكثر العبارات بساطة ووضوحا .. الجدار هو : توجهاتنا وأنساقنا الفكرية غير القابلة للمراجعة.
جرب أن تسأل احدهم عن مدى قدرته على مراجعة أفكاره ومقولاته وأرائه وان يتراجع عن بعضها او يغيرها إذا ما اتضح له خطئها ..
ستكون الإجابة ( المتوقعة ) هي نعم ..
وربما اذا أسعدك ( او أتعسك ) الحظ ووقعت في يد عقل قادر على إنتاج مبررات توجهاته والتنظير لها فسوف تنهمر عليك زخّات من تمجيد لقيم الحرية وإعلاء التعددية وقبول الآخر بل ونسبية المعرفة وتفاوت المعايير وارتهاناتها الظرفية والشرطية ..
وكل ذلك رائع ومذهل في إبداعه ومساراته لكنه للأسف يبقى ( بصورة غير واعية في اغلب الأحيان ) مجرد نقوش على الجدار !
وحتى يكتمل المشهد العبثي انتقل إلى السؤال التالي :
اخبرني عن بعض أفكارك التي قمت بتغييرها او تطويرها مؤخرا ..
اشرح لي الأسباب والآلية التي انتقلت فيها من هذا المسار إلى الآخر وعلى خلفية من تجرد ودراسة واعية ..
وأخيرا قدم لي الأسباب المنطقية التي ترتكن فيها على معايير محايدة لرفضك للآخر خارج دائرتك الفكرية ..
للأسف .. عندها غالبا سوف يرتبك الملقن ليرتجل الممثل فيغلق الستار !
من الحريّة الى التحرر
قد تبدو التفرقة ما بين الحريّة والتحرر لأول وهلة مجرد تنويع لفظي او بلاغي فارغ من المعنى وبخاصة لدى ذوات لا تستشعر مدى تقييدها برغم قدرتها على ممارسة فعل الاختيار او الاستقلال.
إلا ان في إدراك ماهية الحريّة ذاتها بوصفها ( فعلا ) وليس ( حالة ) سوف يساعد على فهم المقصود من الدفع بالإرادة والوعي البشريين إلى ذروتهما وأكثر أشكال تحققهما اكتمالا .. وهو التحرر .
يقول ليسين Le senne :( الحريّة لا تنفصل عن إرادة الحريّة ! )
والمقصود هنا ان الحريّة هي فعل .. هي مكابدة الذات من اجل تحققها في مواجهة العالم وأيضا في مواجهة الذات .. لذلك فالحريّة لا تتحقق بصورة واقعية سوى في نفس اللحظة التي تدافع فيها عن نفسها وتنزع نحو تأكيد قيمتها
وهذا نفسه ما كان يعنيه فيشته Fichte عندما قال :( ان الحريّة ليست من المعطيات الضرورية .. بل هي إنتاج تلقائي )
وهنا لا جدال أبدا في أن الحريّة ليست موضوعا قائما بذاته في مكان او زمان ما .. بل هي ممارسة .. ليست موضوعا خارجيّا .. بل هي وعي للذات بإرادتها وقدرتها على الفعل .
من هذا المنظور الأعمق ربما .. تكون الحريّة هي فعلا يتجه نحو تحقيق قيمة التحرر.. فما هو التحرر ! ساد اعتقاد أراه خاطئا أحيانا أن التحرر هو مرادف فقط للاستقلال أي الاستغناء عن الآخر وعدم الخضوع له فكرا او فعلا ..
وفي الواقع ان قيمة الاستقلال هي فقط مجرد مسار ( جوهري ) في ذروة التحرر .. كذلك هو مرتهن بمدى المكابدة والإنعتاق أي انه فعلا أيضا وممارسة أكثر منه حالة ومنتهى لممارسة الذات الواعية .. سوف أغامر بمحاولة وضع تعريف خاص .. ربما ..
التحرر هو الوصول بفعل الحريّة الى أقصى مدى ممكن له بحيث تستطيع ان تتخلى عن دائرية قيود تلك الحريّة ذاتها .. زاد الأمر تعقيدا بلا شك ..
نعود الى البداية البسيطة .. الإنسان المتحرر الذي نجح في تحقيق اكبر قدر ممكن من الاستقلال على كافة الأصعدة والذي لا يفعل أي شيء الا بناء على ما يعتقد انه إرادته الحرّة. هذه هي نموذجية حالة ( الفردانية ) أي ممارسة الذات لحريتها بصورة الأنا وبمعزل تماما عن الآخر كفرد او مجتمع او حتى ككون فيزيائيّ.
الدائرية هنا تعنى ان تتحول تلك الممارسة الصمّاء الى تنصيب الذات نفسها معيارا وقيمة مطلقة بمقابل العالم، فيتحول التمرد بوصفه فعلا ينزع نحو الحريّة الى فعل مقاومة لكل ما هو موجود بصيغته الإجماليّة دون وعي او عقلانية .. نعم .. هي الفوضى .. والتي يساء دوما استخدامها فتوصم بها كل نزعة تحرريّة في عملية تكون أشبه بالخطيئة ..
والسبب كون المعيار عنا هو الثابت والكائن والموجود ..
بينما الفوضى الحقيقية .. تكون عندما يتعارض فعل الحريّة مع قيمة التحرر .. أي ان معيارها هنا هي الحريّة ذاتها ! نعود .. تخيل معي عزيزي القارئ عالما يحوي مليارات البشر .. كل إنسان يحمل بداخله بالتأكيد رغباته وإرادته الخاصة .. وكل يسعى غالبا الى تحقيق تلك الرغبات وفرض إرادته ..
هل ستقودنا تلك السطور إلى اقتراف جريمة تقرير ان التخلى عن الحريّة الفردية شرط أساسي للوجود ! بالطبع لا .. ولكنها ربما تقودنا الى حقيقة ان وعي الفرد بتلك الجدلية المتناقضة وقدرته على مواءمتها هو التحرر الحق ..
التحرر ببساطة هو ان تؤمن فعلا ان هناك حريّة ما لدى الآخر.
التحرر هو ان لا تنصب من إرادتك ورغباتك معيارا او قيمة تواجه بها الآخر.
وهو ما سيقودنا حتما في النهاية الى ضرورة الارتكان على :هويّة إنسانية جامعة ..
يقول يونسكو Eugene Ionesco ( عندما أريد أن أروي حياتي فإنما أتحدث عن تجوال .. أتحدث عن غابة لا محدودة .. أو بالأحرى أتحدث عن تجوال في غابة لا محدودة . )
حياة كل منّا .. هي اختبار للمكن .. وتحد للمستحيل .. استكشاف لعوالم مجهولة .. ونزوع نحو وجود أفضل البعض منا لا يكترث .. البعض تمضي حياته كدفقة ماء بمسار نهر هادئ .. والبعض يعتلى حياته زبد موج هادر .. لكن المؤكد ان الجميع يمضي .. سواء أكمل تجواله بمفهوم صاحب المغنية الصلعاء ام لم يكمله ..
ما الفارق؟
وهل أصلا سيغير من الأمر شيئا وجود فارق؟
في الواقع ان هذا ربما كان من اقسي الأسئلة التي يمكن لوعي ملحد أن يتعاطاه ويحاول الإجابة عليه .. فمع وجود المنظومة الدينية .. مع اليقين بوجود كائن علوي يراقب ويدخر المكافأة او العقاب .. كان هناك على الأقل جدوى من أن يكون هناك فارق .. من أن تحاول أن تكون نهرا متدفقا عوضا عن ان تكون بحيرة آسنة .. ولكن الآن ..
وعلى خلفية من مشهد يائس ينتمي لمسرح العبث ويكون ملقنه هو حتمية الفناء .. ما الذي قد يصلح أن يكون دافعا !
وهل حقّا الإنسان بحاجة إلى وجود قيمة ( ما ) كدافع للتطور والارتقاء ومن ثم ضمان وجوده هو نفسه في حقيقة الأمر !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق