Out of the night darkness to the lightness of the night ... I was wearing the robe of shyness from seduction of the violet ripples, it spills, so sprouts seasons that suffered from the scarcity of rains.
Soft like a velvet cat ... Eyelids are blades and spears, and the eyes arise my astonishment ... Pregnant with a lot of forbidden questions after I have tried more than thousand of times intermingling loss by staying late.
An old table in a forgotten corner .. her innocence is violated by two wooden seats whispering about the curves of the light when it reflects her simple details, so longing gets back as a wave misses its beach to suicide over the treacherous rocks.
The extent is insomnia ... The attendants through to two white birds hiding from the rut if the branches that sprout between two joined gates of paradise on illusion of daisy. Two strangers captured opens for secret stories and internal burns don’t end but feeling dizzy.
Daily familiar full of cherish and noise, internally symphonic in harmony with the far and non-completed chats and twisting of the words. Repeated optimism to the extent of absurdity or hero to shoes’ cleaner old as the place, the bitterness of coffee taste tickles the throat and cuddles the clouds of nicotine from a shivering cigarette which will end fast, vague desire embraces in darkness at the day light .. These all were sufficient to reflect the disappointment to old audience who aged at the seats of absence waiting “Godot” in an open-end, that dreams are non-worthy.
- Do you know ....
- and Do you know ...
- Very strange
- But very wonderful
- You .........
- and You ..........
- But ............
- Maybe ......
- Perhaps .....
Always I repeating to myself that they would never meet .... The creatures that split of the body of platonic myth of an object was inadvertently omitted from the memory of a God that its lonesome lead him to madness. I always repeated to myself, how is it, despite being impossible, is comfortable .. Saturation, how it is enjoyable to move around to taste all flowers’ colors.
But suddenly, as naive and miserable screenwriter .. Sometimes, it happens to link a deferred fate to the absurdity of the chance, that unique being stares in his lonesome.... To listen to the conscience of the mirrors and tries to review the order of deleting or adding things.
So _ this might be the most important question _ how the flower feels while sprouting between the wrinkles of the rocks?
الخميس، 25 مايو 2017
Insomnia
الجمعة، 29 أغسطس 2014
كما يليق بصانع ساعات أعمى
كما يليق بصانع ساعات أعمى
في وقت مضى.. وعلى مسافة خيبة أمل من الجرح.. أكدت لأنثى العنكبوت معنى أن ينتظر المرء في الفراغ لاجدوى الأحلام.. وكيف انه وقتها تتساوي جميع الاحتمالات.. تتساوى بصورة تخرج بالممكن من دائرة الواقعي ليعانق الخيالي فينسكب المشهد بأكمله ركيكاً يبعث على الغثيان.
عادة ما توخزني مثل تلك الأفكار
كألم أسنان وقح يعلن عن نفسه فجأة بمنتصف الليل.. لكنه سحر الاعتياد !
- عيناكِ دافئتان..
هذا ما لم تسمعه من شفتيّ.. لكنها قرأته بلهفة عينيّ لمعانقة هذين القمرين الزبرجديين السابحين بفضاء أبيض.
- هل
تدرين؟ كنت حقاً معجباً بكِ منذ اللحظة الأولى.. الصدام الأول.. المزحة الثقيلة
الأولى.. وشكراً لكِ فعلاً كونك منحتي الحياة فرصة ثانية كي تجرب لذة لقائنا
- الأمر لا يستحق.. لكن.. أتدري؟ نعم معك حق !
تبتسمين وأبتسم.. تضحكين.. فأغيب أنا في تفاصيلك تزرع بهجة حقيقية بحقول دهشتي.
- الأمر لا يستحق.. لكن.. أتدري؟ نعم معك حق !
تبتسمين وأبتسم.. تضحكين.. فأغيب أنا في تفاصيلك تزرع بهجة حقيقية بحقول دهشتي.
آمنت أن "بينيلوب" كانت نادرة الجمال.. وبرغم ذلك حاولت مراراً أن اصدق ما اختار "أوديسيوس" مواجهته في سبيل عودته ولم استطع.. حتى في سبيل مملكتي المسلوبة هل كنت سأغامر بدخول العالم الآخر من اجل اقتناص الزهرات المقدسة؟ اغلب الظن أنني كنت سأستقر بقاع نهر المجون حيث تغمس "السيرانات" أردافها الفضية في غواية الموت.
عالمك له سحره غير الأسود.. استلاباً وردياً.. وبرغم وفرة عوالمي فقد كنت دوماً قادراً على اقتناص الاختلاف.
فكرت كثيراً في تفاصيلك الرديئة أعترف..
وهي رديئة لأنها تمعن عني في الاختباء، ترى.. هل سيستوعب مدى جنونك رغبتي الأولية
في تذوق منبعك؟ في أن أخبرك بأفضل برهان غير فلسفي لماهيّة وملامح ما يتلبسك من شبق؟
يدعي البعض ان "هوميروس" لم يكن أعمى.. ويتحججون بدقة وصفه لسهول ومدن وجبال.. لم يكن ذلك يوماً دليلا مقنعاً لديّ.. وأنا الذي جربت كثيرا أن أتلصص بعتمة الغياب.
عندما تتمايلين كزهرة لوتس مقلوبة
وقت هبوب رياح اللقاح فتورق ظلالك على حوائط معابد قديمة وتحتلين المدى. يهرع كهنة
البغاء المقدس ليلتقطوا عملات استقرت بين فخذي آخر امرأة منحت سرها لأول غريب.
لا تزعجني حقيقة أنني لست الأول
وتنجحين في منحي الشعور بأنني لست غريباً.. لكنني اعترف ( ثانية ) أنني اشتهي أن
أكون الأخير.. وان تكوني.
مازلت لا اصدق كيف اتهم أهل جزيرة "ليسبوس" المتفردة "سافو" بمجون الشذوذ.. هل كانت تلميذاتها بتلك الدرجة المؤلمة من الروعة؟
الدعم.. عنفوان المشاركة.. الوصايا البنفسجية.. الاستلاب المتبادل.. كلها تدرجات متفاوتة على معراج اليقين بجدوى الموائمة.
عندما أسترسلتي لم اندهش لكنني
أعلنت عن إعجابي:
- قراءاتك تطمئني.. كتاباتك تبهجني.. استعدادك الحقيقي وانفتاحك يؤكد لي صواب الاختيار
كنت أثرثر بينما يهمس بأذني غبار التروس:
- قراءاتك تطمئني.. كتاباتك تبهجني.. استعدادك الحقيقي وانفتاحك يؤكد لي صواب الاختيار
كنت أثرثر بينما يهمس بأذني غبار التروس:
- كل شيء تماماً كما جاء بتفاصيل الحلم.. وتلك حقيقة مفزعة !
دوما ما كنت اغرق في حيرتي ثم
اردد لها :
- كيف تجرؤين على منحي سرك بينما لا تهتمين بمواقعة حرائقي المعلنة؟ دوماً ما كنت ادعوها لاقتراب مختلف.. ثم أعود لأغيب قبلها في اجترار الاعتياد.. في هوس ازرعه بأحشائها ويسكني كحريق.. في انطراح طوعي للعقل في سبيل الإنعتاق.. كانت كبدر لم يكتمل معلقا بسماء حائرة.. وكنت أنا كقوس قزح لا تمل غواية ألوانه أبدا عن إلحاح الممازجة.. كنّا بعبقرية التواطؤ المشترك نمضي.. لكنني كنت اعرف أنني بلحظة ما.. شهقة ما.. سوف يغلبني احتياجي لبدر مكتمل !
- كيف تجرؤين على منحي سرك بينما لا تهتمين بمواقعة حرائقي المعلنة؟ دوماً ما كنت ادعوها لاقتراب مختلف.. ثم أعود لأغيب قبلها في اجترار الاعتياد.. في هوس ازرعه بأحشائها ويسكني كحريق.. في انطراح طوعي للعقل في سبيل الإنعتاق.. كانت كبدر لم يكتمل معلقا بسماء حائرة.. وكنت أنا كقوس قزح لا تمل غواية ألوانه أبدا عن إلحاح الممازجة.. كنّا بعبقرية التواطؤ المشترك نمضي.. لكنني كنت اعرف أنني بلحظة ما.. شهقة ما.. سوف يغلبني احتياجي لبدر مكتمل !
يدعي "هوميروس" ان "اوديسيوس" عندما أراد النجاة من سحر نداء عرائس البحر قام بصب الشمع في آذان بحارته بينما قام هو بربط جسده إلى صارية سفينته.. هل تساءل أحدكم يوما لماذا؟ لأنه منذ البداية لم يستطع مقاومة سحر أن يجرب هذا السحر.. انه الإلتعان بشهوة المعرفة.
عندما قررت أن أقترب في رداء الحياد كنت أدرك جيدا مدى عمق الهاوية، ورغما عن ذلك وفي رعونة صانع أعمى للساعات لم أهتم كثيرا لحقيقة أن البشر لا يقبلون على اقتناء ساعات تتراجع عقاربها للوراء.. ولا يفضلون ساعات الرمل إلا على طاولات تزين قاعات لم يعد يرتادها احد.
وبعزم الجنون كنت أبدد الزمن في
محاولة إحتواء الزمن! تكاثرت الساعات.. وعلى اختلافها الذي توهمته في ولع التفاصيل
البسيطة كان الزمن ذاته يعيدها لمتجر أوهامي كصنيعة منسوخة أكثر تشوهاً وأقل قدرة
على إشباع شبق التجربة.
من عذاب اليقين ولد الثبات
فاقتنصت لعنة الأبد.. صانع ساعات أعمى مصلوب بين تروس صدئة يعبأ أنينها المدى..
تردد بلا يأس وبلا أمل :
- لا وقت للوقت.. ولا مسافات للبعد !
- لا وقت للوقت.. ولا مسافات للبعد !
الأحد، 10 أغسطس 2014
السبت، 2 فبراير 2013
غربة الثائر
مُتْ بِهدوء..
فَصُراخك يفسدُ لغةَ
الحوارِ
يذيبُ أقْنعةَ من
يتحدثون بإسمك
ويُربِكُ صُنَّاعَ
القرار
مُتْ تماماً..
فلا مكانٌ لك
بالصفحاتِ الملونة
كُنْ رقْماً
وسيُفقدك الزمان هُويتك
لن نعرف مَنْ كُنت
فبالأدراجِ الباردةِ
تتشابهُ الأجساد
وتختلطُ النوايا
مُتْ كثيراً..
كيّ نعتاد مأساتك
فتصير جزءاً مِن مرارة
قهوة الصباح
وموضوعاً عابراً في حديثٍ
قصيرٍ بين غريبين
مُتْ سريعاً..
فجسدك الداميِ عِبئاً
ثقيلاً
وكلماتك تؤرق كلاً مِن
الضحية والجلَاد
فانت المتمرد الخَطِر
الفوضوى المحبوس داخل
زجاجات النار..
المصنوعة على عجلٍ
بالأحياءِ الفقيرة
عدو الدين
المتآمر والخائن
أنت كل شيء
وأي شيء
لذا.. فموتك قدر
فمُتْ..
سعيداً
أو انتحر.
الأحد، 27 يناير 2013
مني جبّور والتمرد علي سطوة النسيان
الحديث عن "منى جبّور" وما اندره لا يخلو دوما من استدعاء الدهشة حينا والمرارة احيانا ..فتلك الحالة الروائية والفلسفية المتفردة لم تحظ ابداً بما يليق بموهبتها سواء على المستوى النقدي او على مستوى الذاكرة ..وكأن القدر يطارح عمرها القصير جدا الغياب فكانت الومضة التي تتوهج سريعا ثم تمضي نحو الجانب الآخر من صخب الحياة.
ولدت "منى جبّور" في 15/8/1943 باحدي
القرى الصغيرة (القبيات) التي تقع على اطراف بيروت حيث تلقت تعليمها الإبتدائي ثم
المتوسط في المدرسة النموذجية في "فرن الشباك" قبل ان
تلتحق بدار المعلمين ..لفتت الفتاة الصغيرة المتطلعة الإنتباه بوعي مختلف جعل كل
من حولها يتنبأ لها بمستقبل مشرق ..وكانت السمة الأكثر وضوحا لها هي التمرد وهو ما تجلي
بعد ذلك في نصوصها القصصية والروائية وايضا مقالاتها ..ذلك التمرد الذي اتضح في
رغبتها المحمومة وسعيها الدؤوب للانتقال الى بيروت والانخراط بكل حماس في الأوساط
الثقافية فأصبحت وهي بعد على تخوم العشرين من عمرها سكرتيرة تحرير مجلة الحكمة
وكاتبة دائمة بصفحة الأدب النسائي بجريدة النهار اضافة الى انخراطها في العديد من المؤسسات
الثقافية كالندوة اللبنانية والمنظمة العالمية لحرية الثقافة وجمعية اصدقاء القصة
وغيرها.
ولأن التمرد الحقيقي والذي ينبع من ذات
الوجع بالوجود يمتد لأكثر من طريقة في الحياة او فحوى بالنص فقد جاءت نهاية حياة
"منى جبّور" القصيرة معبرة عن هذا لتصفعنا بقسوة الإعتراض عندما تم
العثور على جسدها الرقيق بصباح 24 يناير عام 1964 مسجى في وداعة الموت/القرار اثر
الإختناق بالغاز لتتركنا الكاتبة الشابة كما كانت توجد بحياتها النضرة جملة اعتراض
كبيرة على المجتمع بكل اقانيمه وافكاره البالية.
رحلت "منى جبّور" طوعا لعالم
افضل تاركة ورائها روايتين .. "فتاة تافهة" وقد كتبتها وهي في سن
السادسة عشرة واخرى مخطوطة لم تنشر الا بعد موتها وهي " الغربان والمسوح
البيضاء" اضافة الى مجموعة من القصص القصيرة والمقالات الادبية والنقدية
للأسف لم يتم حتى هذه اللحظة بذل اي جهد نحو تجميعها واعادة اصدارها في طبعة خاصة
تنقذ سيرة كاتبة عظيمة من مصير النسيان.
فتاة تافهة.. تفاهة الوجود بواقع مهتريء
"انني أكره هذا الجسد، اشعر نحوه باحتقار
هائل وبغض جارف..كلا.. بل احبه، أحبه. أحبه لانه سيبقى سليما وحرا، لي، ولن يتعرض بعد
الآن ليضاجع خيال ذكر"
يشي هذا الاجتزاء من مونولوج داخلي يغص
به نص "فتاة تافهة" من خلال وعي بطلة الرواية "ندى" عن احد
الأفكار الأساسية او لنقل الجحائم التي يتقلب بها وعي ووجود الكاتبة الراوية او
الشخصية المروي عنها فلا فارق كبير!
كانت تمرد "منى جبّور" من
خلال نصها الروائي "فتاة تافهة" متحققا على عدة مستويات وبصورة خالصة
..ليس فقط على مستوى الأحداث او الشخصية الروائية كما قدمتها من خلال فتاة في
الثامنة عشرة من عمرها تواجه المجتمع بكل غلاظة احكامه المسبقة على وجودها الانثوى
المستباح والمهمش والمقولب في صيغة اختصار الغواية او التحريم بل ايضا جاء على
مستوى بنية النص ذاته واللغة الصادمة والتي تثور هي الأخرى على رصانة مفتعلة كانت
هي السائدة وقتها ..فنجدها تصف المعلم بالكذّاب.. الوقح.. الخنزير الوسخ.. هذا
مستوى من مستويات تفكيك احدى صور العلاقات البطريركية نجد له تفتيتا للمنتهى عندما
تصف اباها بالثور الخائر!
بينما جاء الارتكان بصورة اساسية على
المونولوج الداخلي القصير والعميق المحاط بالصمت او الظلام او روح الكآبة - كأحد
مظاهر التأثر بأدب العبث واللامعقول – في بنيته مفعما بالمشاعر النارية والصخب
الذي يعلو صراخه على ضجيج العالم العبثي على نحو اشبه بشخصيات "البير
كامو" فتتكرر عبارات تمزق ركود العالم والذات : "أمزّق جسدي ..احترق
بالنار .. صراخ يفتّت الجدران" لتتخذ عملية الكتابة هنا صورة مختلفة من صور
مجابهة العالم بترسانة محرماته وقوانينه الاجتماعية على مستوى المتخيل من مستوى
المحي عنه او على مستوى الواقعي من مستوى المحكي به اي آلية الكتابة.
الأدب بوصفه إعادة انتاج للوجود
يصف "يونسكو" الكتابة بقوله
: "الكتابة هي "تحرير للمكبوت في النفس والأدب ظاهرة عُصاب! " وذلك
للتعبير عن القلق الوجودي والضيق الميتافيزيقي. بينما تفصل "منى جبّور"
الأمر بوضوح اكثر في آخر حوار معها عندما تقول : " الأدب حكم عليّ... جميع كتاباتي
تنفيذ رغبات تخنقني عندما تلج. وأنا في كل نوع من الكتاب أنفذ رغبات معينة وحاجة خاصة.القصة
القصيرة والقصيرة مثلاً أكتبها عندما يغمرني إحساس عنيف وقصير، يملؤني بسرعة ويهزني
بسرعة فأعبر عنه بسرعة وأرتاح. أما الرواية فأبحث معها عن الحياة بأكملها... ألوذ إليها
عندما أفتقد العالم فأخلقه. لذا فالرواية مغامرة في حياتي تؤثرعليّ. تنقلني لمدة بعيدة
إلى عالمها، إلى أجوائها إلى عقدها وأحداثها وأنا أحياناً أجدني أسخف بكثير وأعطل بكثير
من أن يكون لي عالم معين فأعجز عن كتابة رواية."
ترى هل نفذت الحكاية ام وهن صوت الراوي
حتى تخرج الينا بفصل أخير من رواية بعد لم يكن مقدرا لها ان تنتهي ؟ هل غادرها
العالم فغادرته ؟ ام هل كانت تطمح لمعاينة عالم اوسع من مخيلة الراوي والرواية ؟
دائما ما يكون الحق في الاختيار هو جوهر قيمة التمرد ..فهل بصورة عبثية ايضا تحول
العجز عن فرض الاختيار الذاتي الى مقامرة بالحق في الوجود ذاته ؟ ربما ..فهو بجانب
منه فرضا وليس اختيارا !
الثلاثاء، 3 يوليو 2012
المرأة والتحول التراجيدي المقدس
عندما نرجع للوراء بضعة آلاف من السنين نجد ان العالم كان رجلا منتصرا انذاك .. وانه هو من دون التاريخ برمته لصالحه .. وبالنسبة لذاك المنتصر الموبوء بنرجسيته الذكورية فان تاريخ الحضارة الانسانية المدون غالبا لا يتعدى السبع آلاف سنة وقد يزيد هنا او هناك قليلا .. وذلك على الرغم من ان أقدم هيكل اُكتشف من الأنواع البشرية البائدة ( آردي ) قُدر عمره باكثر من اربعة ملايين عام وهو بالمناسبة لأنثى !
التاريخ الذي يلوكه البشر الان قد تم تدوينه بولادة المجتمعات الابوية .. اما ماحدث قبل ذلك فقد ذهب مع الريح .. أو ظل مندثرا ومردوما دون ان يمسسه احد .. ذلك الجزء من التاريخ يختزل بين طياته عصر المرأة اثناء نهوض المجتمعات الامومية وسيادتها على نواحي كثيرة من الحياة .
ان علم الانثروبيولوجي والآثار المتبقية كشفت جوانبا مختلفة عن الجزء الأكبر الذي يجسد دور النساء في العهد الامومي .. ويثبت كيف تمكنت من ترسيخ قواعد الحضارة الانسانية .. ومن افضل ما قرأت بخصوص هذا الموضوع كتاب رائع بعنوان ( تاريخ النساء في العالم ) للباحثة المشهورة ( روزلاند مايلز )
قامت مايلز باحصاء الحضارات القديمة في فصول كتابها والتي غفل عنها الكثير من الباحثين والمنقبين .. وتمكنت من إحياء المجتمعات الامومية واثبات وجودها بدلائل علمية منتقاة من خلال ما عثر عليه في مشارق الارض ومغاربها من بقايا سحيقة العمر .. ومن مخلفات اثرية ومتحجرات ومخطوطات وهياكل بشرية لأمم بائدة .. وفي النهاية استنطقت طيات الزمن السرمدي وبرهنت على ان النساء كان لهن اليد الطولى .. والصوت الأعلى .. والكلمة الأخيرة في تسيير امور الحياة ولمدة تقارب 25 الف عام.
في تلك الازمنة كثير من الآلهات وانصاف الآلهات كن اناثا .. وبقيت تلك الآلهات تعبد لآلاف السنين حتى في العهد الأبوي الذي احتضن مختلف الحضارات كاليونانية والرومانية والصينية والهندية والحضارات الشرقية الأخرى ..
فعلى سبيل المثال ظلت بقايا آثار الآلهات في منطقة الشرق الأوسط واضحة حتى بعد بزوغ عهد السومريين وازدهار الحقبة الفرعونية .. كذلك بعد نهوض حضارات دول الشام والأفارقة وجزيرة العرب .. لكن بعد انتشار الاديان بكل اطيافها وزحفها في دول الشرق والغرب .. تم اقتلاع جميع الجذور المتبقية من العهد الامومي وطمست رموزه المقدسة .
تاريخيا .. حتى العرب كن يقدسن آلهات انثوية وهن: اللات والعزى ومنات .. تلك الآلهات كن ذي مكانة خاصة وجليلة في نفوس العرب .. لذلك كن ملتفات حول الكعبة انذاك .. لكن مع رسوخ المجتمعات الذكورية وتصالب الاديان وتناميها .. تم تفتيت كل الرموز الأنثوية وتبديدها التي كانت منتشرة في بقاع الدنيا.
الجدير بالبحث هنا هو لماذا اعطى العالم القديم الانثى تلك المكانة واسدلوا عليها كساء الألوهية !
لماذا التف البشر حول آلهات انثوية وقدسوها !
نعود مرة اخرى الى تحليلات ( مايلز ) الرائعة ..
السبب ببساطة هو لأن المرأة كانت المعيل الاساسي للأسرة .. فقد كانت هي المسئولة عن الافراد في مجموعتها .. الأمر الذي اكسب المرأة سلطة وهيبة بجانب كونها منبع الحياة واكسيرها المتجدد ..
فقد كانت المرأة في العصور القديمة هي احد الاسباب الرئيسية في الحفاظ على سلامة التكتلات البشرية المتناثرة على اليابس وعامل هام في نجاتها من الاندثار .. فهي من رعت الصغار وحمتهم .. وساعدت الضعفاء وكبار السن على العيش ومواصلة المسيرة .
تاريخيا .. فان النساء في العصور البدائية هن اللاتي تحملن عبء توفير الماء والغذاء لجماعاتهن وذلك بجانب رعاية الاطفال و تربيتهم .. الإناث كن يجلبن تقريبا 80% من المؤونة لأفراد القبيلة .. بينما الذكور يعربدون ويهرولون في رحلات الصيد .. ويقنصون الحيوانات الكبيرة التي لا تصلح سوى لوجبة واحدة .. حيث يلتهمها الأقوياء منهم .. وما يتبقى منها يتهافت الباقون عليه ..والفتات والفضلات تترك مهملة فيصيبها العفن وتصبح غير قابلة للإستهلاك البشري .
إذن ( والكلام هنا لمايلز ) الرجال منذ فجر التاريخ كانوا يصيدون لملئ بطونهم .. ويعملون بروح الفرد لا الجماعة ويتسمون بفوضوية وهمجية في غالب الاحيان .. وهذا ربما يفسر ما آلى اليه حال العالم اليوم فالقنص مازال مستمرا في مجمله من اجل اقصاء الآخر وتوسيع المساحة لمطامع خاصة .
النساء عكس ذلك تماما فقد كان همهن اشباع الكل .. لذلك زاولن مهنة الزراعة وجمع المأكولات النباتية من خضار وفواكه .. كن يلتقطن ديدان الأرض وحشراتها حيث الفائض كان يجفف ويخزن .. ايضا احترفت المرأة مهنة صيد الاسماك والحيوانات الصغيرة لأنها سهلة القنص والقضم .. يتقاسمها افراد القبيلة ولا يتبقى منها شيئا ليتلف ..
من ناحية اخرى .. فقد اثبت علم الانثربيلوجي ان المرأة هي من علّمت الرجل اصول الزراعة وفنونها ولقنته قواعد صيد الاسماك ودرسته مبادئ الصناعة ايضا .
الخلاصة ..
ان التحول التراجيدي لوضع المرأة حدث حين قُدست القوة الجسدية واستبد منطق السلاح وسادت لغة العنف وظهر المجتمع الابوي وصار الرجل هو سيد الموقف .. حينها تم سحب البساط من تحت اقدام النساء واُسكتت اصواتهن وهمشت ادوارهن .. بل تم الغاء وجودهن حتى صار لايسمع ولا يشاهد في العالم سوى الرجال .ثم جاءت الاديان المتأخرة لتخبر ان الله ( هو ) ॥ وان الانبياء جميعا ذكور .. وأن المرأة مخلوقا ناقص .. نجس الا قليلا .. موضوع للمتعة الجنسية .. وبعد ان كانت الهة .. اصبحت امة وجارية .. شيطانا او كائنا يغوي
السبت، 30 يونيو 2012
الخميس، 21 يونيو 2012
مشهد عبثي
الحشد المحموم لدعم الاخوان باسم الثورة هو اكبر انتهاك واساءة للثورة فالجماعة (كمؤسسة) لم تكن ابدا فصيلا ثوريا ولم تكتف فقط بالمشاركة فيها وفقا لمصالحها السياسية بل وخانتها وخانت الدم المراق تحت بيادة العسكري اكثر من مرة ..الاخوان لا يحركهم ابدا سوى مصالح جماعتهم لا اهداف الثورة او مصلحة الوطن ودوما ستكون هناك الصفقات القذرة التي تتنوع وسائل الضغط في التوصل اليها ما بين الحشد الميداني او الضغط الاعلامي او استعارة الخطاب الثوري والذي للأسف يجتذب العديد من حسني النوايا او ضعاف الذاكرة!
افيقوا وتعلموا الدرس فهذه ليست معركتكم وليست معركة حقيقية للثورة
يسقط حكم العسكر وتسقط الجماعة فكليهما وجهي عملة للنظام الفاشي والفاسد
الثورة مستمرة ....
الأحد، 27 مايو 2012
الحكم الفاشي المزدوج ..نعم ضد الإخوان والمتحالفين معهم اتحدث!
ما ان انتهى اثر الصدمة الأولى لخروج مرشحي الثورة حمدين صباحي وعبد المنعم ابو الفتوح من سباق الانتخابات الرئاسية وانحصار المنافسة في الإعادة ما بين احمد شفيق احد اركان وممثلي النظام السابق وبين محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان المسلمين حتى بدأ انهمار سيل من الدعوات الداعية للتخندق وراء مرشح الجماعة بدعاوى مختلفة منها ان الجماعة تبقى جزءا من الثورة وليس النظام وان الاختيار التكتيكي لهذه المرحلة يقتضي اولا الاطاحة بآخر بقايا النظام البائد وان الغاية الأولى هي انهاء هيمنة وسيطرة المجلس العسكري على حكم البلاد فترى هل هذه الدعاوى صحيحة وهل بمقتضى هذه الدعاوى سنصل بالفعل الى الغاية المنشودة؟
اولا هناك فارقا بين ان تكون جزءا من ثورة او ان تكون قد شاركت بها .. ان تكون جزءا معناه ان تكون من الداعين والبادئين ثم الداعمين والثابتين على الموقف لا ان يتغير موقفك وخطابك وفقا لمصالحك الذاتية وتوازناتك الخارجية .. وقتها ينسحب منك حتى وصف المشاركة ليتحول الى الارتزاق والنفعية .. وهذا بالظبط هو عين ما مارسته الجماعة طوال عام ونصف تقريبا هي عمر هذه الثورة بداية من التحالف مع العسكري لتمرير التعديلات الدستورية المعيبة ومرورا بغض البصر بل وتبرير المجازر التي ارتكبت بحق الثوار في ماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود ثم الحنث بالوعد الشهير الذي قطعوه على انفسهم بعدم الطمع في السلطة او الرغبة في الترشح للرئاسة لينطلقون بعدها معلنين عن انفسهم بشكل صريح يريد الاستحواذ على كل مفردات الدولة من لجنة كتابة دستور وبرلمان وتشكيل حكومة .. هذا النكوص المتكرر والتراجع في الوعود طبقا للمصالح هو بالظبط ما نحتاجه الآن للانتقال الى الفكرة التالية وهي هل بالفعل سيؤدي التخندق وراء مرشح الجماعة ومن ثم الصعود بمرشحها لسدة الحكم بمصر الى انهاء حكم العسكري والذي سيكون احمد شفيق في حال نجاحه مجرد معبر عن ارادته ؟
الإجابة كنت اتوهم كونها واضحة خاصة لنخب ومثقفين وصنّاع للرأي العام ادمنوا نصح مريديهم ومتابعيهم بقراءة التاريخ والتعلم من دروسه بيد ان البعض لدوافع ايدولوجية والآخر لاسباب شخصية بحتة اندفع دون تفكير –او ربما بعد تفكير عميق – نحو الترويج لوهم الثقة بفصيل كل تاريخه يشي بالمراوغة وعدم الثبات على الموقف وهو ما يفتح باب الاحتمال المنطقي لسيناريو مختلف تماما هو الاكثر افزاعا لكنه بذات الوقت الاكثر واقعية واتساقا مع اطراف المعادلة ،دعونا نتصور ان التحالف قد نجح وقد دفع بممثل الجماعة الى كرسي الرئاسة على حساب مرشح تكاتفت كل اجهزة الدولة الخفية والمعلنة في سبيل تدعيمه بكل الطرق الممكنة –مرشح مفضل للمجلس العسكري- فهل سيدفع هذا من بيده القرار للتنكيل بالجماعة والانقلاب على شرعية مكتسباتها (حوار عمرو موسى واشهار كارت الامن القومي ) وبالتالي المغامرة بثورة اخرى ممكنة وحالة واسعة من الفوضى قد تطال ثبات اركانه هو ؟ ام هل تتوحد الجماعة مع الثورة ومطالبها وتدخل في صراع صريح مع المجلس العسكري يهدد بتبديد مكاسب خيالية لم يدر ببالهم ان يحققوا نصفها يوما ما ؟ لأننا نعيش بالواقع ونتعامل من خلال علاقتي المصلحة والضرر فلن يكون هذا او ذاك بل ببساطة هو اعادة ذلك التحالف المتواطيء ما بين الجماعة والمجلس العسكري في صيغة تقسيم صلاحيات وسلطات (غنائم) بما يضمن للجماعة ما سعت اليه وتسعى من هيمنة على البرلمان والرئاسة ومؤسسات دينية ومدنية مقابل وضع خاص للجيش وصلاحيات موسعة للمجلس العسكري تبقيه الحاكم الفعلي للبلاد وتبقى قضايا هامشية كتشكيل الحكومة مثلا رهنا بسجال الشد والجذب (الابتزاز) بينهما وحسب مقتضيات الأمور!
هذه هي الصيغة الاكثر توافقا مع الواقع المستقبلي القريب وهي ان حدثت فستكون النهاية شبه الحقيقية لأي مد ثوري ممكن ان يبعث من جموده النازف للشعبية والمتعثر بين كيانات معقدة ومحترفة لن تسمح له بالحياة بقدر استخدامها له كفزاعة مزدوجة !
حسنا وما الحل ؟ انه السيد المرشح احمد شفيق ! ليس بدعمه والاستقطاب له كما انجرف النصف الثاني المقابل من هول فزاعة المبالغة من حكم ديني متزمت يعيدنا للقرون الوسطى .. بل بأن نتذكر جميعا اننا نمارس فعلا ثوريا لا طقسا احتفاليا .. بان تتم اعادة الاعتبار للشارع والميدان وفضيلة الاعتراض والممانعة .. بالاصرار على الشرعية وسيادة القانون سواء من تفعيل للعزل او فتح للتحقيقات في البلاغات المكدسة بمكتب النائب العام (اختيار مبارك) وكذلك التحقيق العادل في ما عبأ المدى من رائحة تزكم الانوف لتسويد بطاقات وتصويت لمجندين وعسكريين له ناهيك عن المخالفات الاساسية المنتهكة لقوانين الانتخابات .. الحل هو الحشد والتوحد .. وعدم اليأس او الانجراف نحو معادلة اخف الضررين فعندما ينخفض سقف طموحك لن تجد السقف ذاته وانما ستضطر للمفاضلة ما بين الركوع او السجود فقط تبعا لهويّة من يغتال حلمك!
الجمعة، 18 مايو 2012
مصر.. والثورة التي يأكلها ابنائها
ليل خارجي .. اوائل فبراير 2011 .. قهوة صغيرة جانبية بوسط البلد بها الثوّار اكثر من الكراسي وزجاجات الماء الفارغة .. غبار وضواء قرع على متاريس حديدية ودم .. بهجة تولد من جوف العتمة .. مناقشة ومناظرة صغيرة كل بضعة امتار .. كانت تلك المرحلة الزمنية الواقعة ما بين موقعة الجمل واعلان التنحي .. كانت تلك اللحظة النادرة التي لم يشهد الوعي الجمعي للمصريين سطوعا مثلها .. وكان القاسم المشترك للأمل فكرة واحدة ترددها مختلف الأصوات وبصياغات مختلفة : هذه الوحدة ابدا لن يقدر عليها أحد.
تستعيدني ذاكرة المشهد الآن وقبل ايام قليلة من اجراء اول انتخابات رئاسية بمصر ما بعد الثورة .. منتصف مايو 2012 .. انها الثمرة التي سالت من اجل انباتها دماء مصريين آمنوا بالحق في الحريّة وبامكانية التغيير.. الثمرة التي من اجلها ارتدت الأمهات لون الحداد طواعية علها تجد تعويضا مناسبا في تحقق مستقبل مشرق لابناء الأخريات بهذا الوطن .. وهي نفس الثمرة التي اصبح ينهش فيها الآن بكل أنانية من روجوا من قبل للآخرين أحلام الوحدة على الهدف وضرورة انسحاب الذات امام الحلم الكبير الذي لا يخص احدا بل كل واي احد حلم الوطن .. ولكن عندما تنغرز اسنانك بثمرة محرمة لن تستطيع ابدا ان تمنع عن المزدوج بداخلك شهوة الاسترسال .. ولن تكتفي بنهش ثمرة سرابية معلقة برضا سلطة تنهش هي الأخرى بجسد الثورة انتهاكا وتعذيبا وتقتيلا .. بل ستتحول سريعا لنهش كل من تسول له نفسه الأقتراب من حلمك انت وذاتك .. لا يهم ابدا ان كنت يوما قد عانقت يدك يده امام قنابل الغاز والدخان .. لن يصنع فارقا كبيرا انك يوما كنت مستندا على جدار لزنزانة ضيقة كتب عليها هو قبلك اسم الحرية .. ولان الحلم اصبح ذاتيا .. جدا .. ولا متسع فيه للأغبياء او الدراويش الذين احترفوا مهنة صنع الإله .. فلا مانع ابدا من مسح اثار الدماء مازالت تلطخ الحذاء الثقيل .. وكم سيكون جميلا لو قمت بضم القاتل الى زمرة الشرفاء .. وبالطبع ضروريا جدا ان تفعل كل ذلك باسم الدين .. اكذب باسم الله .. ونافق باسم التقية .. وزيف باسم الضرورة .. وازرع الكراهية اينما حللت باسم الولاء البراء .. احتقر المرأة والفنان واليساري والليبرالي لكن احرص ان تمنحهم ما يريدون من وعود براقة يندفعون نحوها-نحوك كفراشات بلهاء تستدعي مصير الاحتراق .. مازالت الثمرة تقف بالحلق؟ سخر اقلام متلونة وابواق جوفاء .. انتشر .. اغرق المدى بصورك الملونة والتي تحرص فيها على الابتسام بحنان الأب وحكمة الأولياء .. كن دائما امامهم ومن خلفهم .. ولا تنسى ابدا وانت تبيع دم الشهداء ان تبدأ حديثك بالترحم على الشهداء!
السادة المرشحون الثوريون .. السادة المتناحرون على مقعد كرتوني مرصع بعيون ضحايا محمد محمود واشلاء ضحايا ماسبيرو .. السادة الفرقاء .. انهشوا اكثر .. تعروا اكثر .. اخرجوا كل ما في جعبتكم من غرور وانانية وحب للذات .. اقتلوا الثورة اكثر واكثر .. اصدموا كل وعي صدق وآمن وبذل .. وتنافسوا على اقتناص دور حجر الهاوية ..فهذا وحده ما سيضمن اندلاع ثورة القيامة .. الثورة الحقيقية .. بلا أصنام او ادعياء .. ولكن احذروا انتم ومن خلفكم ومن تتوجهون نحوهم .. فاكثر رعبا من ثورة الجائعين هي ثورة اليائسين .. والذين كفروا برجل الدين والسياسي والقائد والمناضل .. ثورة الغضب على الذات!
المجد لك وحدك يا وطن ..مريض بالأمل لكنه محكوم بالعذاب.
السبت، 2 يوليو 2011
مصر.. حتى تكتمل الثورة
أحمد الخيّال
” لقد قمنا بتغيير الرئيس، ولكن الرجل الثاني في النظام القديم لازال في السلطة. لقد كسبنا معركة، ولكننا لم نكسب الحرب بعد ”
” أثناء الانتفاضة ضحى العمال بحياتهم ببسالة .. ولكنهم حصلوا فقط على تغيير دستوري بينما كانوا يريدون شروطاً أفضل للحياة وشكل آخر للدولة ”
جاءت هذه الكلمات على لسان بعض قادة العمال في اجتماع ممثلي النقابات والمنظمات الجماهيرية بعد أيام قليلة من انتفاضة بوليفيا ( أكتوبر 2003 ) والتي اندلعت شرارتها بواسطة الطبقة العاملة ( عمال المناجم ) وهي التي كان مقدرا لها أن تنضم إلى مصاف الثورات الشعبية التاريخية الكبري ذات التأثير العميق لولا سيطرة الأصوات الداعية للاستقرار والمهادنة وضرورة الانتظار لمنح الفرصة وإعطاء الوقت فحدث أن سمح هذا بالطبع للحكومة الحالية وقتها وللطبقة الحاكمة من ورائها أن يبقوا على قيد الحياة، وتم بعدها تبديد القوة المحتملة للانتفاضة ولقدرتها على إحداث التغيير الحقيقي المطلوب.
لا يختلف هذا المشهد كثيرا عن اللحظة التاريخية المصريّة الراهنة التي لا نكتفي ( لحسن الحظ ) بمشاهدتها الآن بل ونسهم أيضا في تشكيلها وتحديد وجهتها سواء سلبا أو إيجابا لكن بنسب متفاوتة من الوعي سواء بدروس التاريخ أو قراءة الحاضر أو استشراف المستقبل ،كذلك بنوايا لا تتفاوت فقط بل وقد تتعارض أيضا على مستوى النهاية ( الثمرة ) التي تتوج هذا الحراك الثوري كل حسب ايدولوجيته أو حساباته ومصالحة الخاصة ،ذلك التفاوت الذي افرز في المرحلة اللاحقة على تنحي مبارك ذلك الانقسام في التعاطي مع استمرار الوقفات الاحتجاجية ما بين مؤيد ومعارض وما جري تمريره عبر وسائل الإعلام والخطاب الديني ( إخوان – سلفيين ) وكذلك الخطاب الرسمي السلطوي ( المجلس العسكري ) من ضرورة الاستقرار والامتثال لنتائج صندوق الاستفتاء ( على دستور مهتريء معني بالتغيير لا التعديل ) وفي غمار هذا التخندق الغير مسبوق لقوى وتيارات لم يوحد خطابها سوى المصلحة تم إنتاج مقولات هزلية من عينة دفع عجلة الإنتاج والأجندات الخاصة حتى وصل الأمر لان تصف جماعة الإخوان من خرج بجمعة الغضب 27 مايو بالكفرة والملاحدة والشيوعيين وبان هذه الوقفة هي جمعة الوقيعة ما بين الشعب والمجلس العسكري ،ناهيك عن ذلك الصراع النظري العقيم بين رؤية واتهامات يسارية ليبرالية حول الأولويات واليات العمل وملامح المرحلة المقبلة بينما كان يلوح أحيانا في الأفق أصداء لصراع مكتوم حول الزعامة ومن يحق له التحدث باسم الثورة ذاتها وهو صراع يتضمن بداخله تنافس وجودي بين جيل الشباب ( الصانع الحقيقي للثورة ) وبين جيل أو أجيال حاربت طويلا وأنتجت آلاف الصفحات وخاضت الكثير من الحروب ( بعضها دون كيشوتي أو ديكوري ) لكنها تفاجأت مثل الآخرين بتحقق الحلم الذي طال انتظاره حتى كاد أن يكون مستحيلا .
هذا التفاوت في المواقف والخطاب والذي اختفي او كاد بصورة أدهشت جميع المراقبين في الايام الأولى لثورة الغضب المصرية 25 يناير وما تلاها حتى اعلان الرئيس السابق عن تنحيه عن السلطة على لسان نائبه ورئيس جهاز المخابرات السابق عمر سليمان 11 فبراير كان باعثا على كثير من الامل ( الزائف ) في ان تستطيع القوى الفاعلة بالساحة المصرية وكذلك الوليدة من تجاوز خلافاتها وتعارض توجهاتها ومصالحها نحو اقامة تحالفا وتجمعا ينصهر فيه الجميع من اجل مصلحة الجميع .. ذلك الامل الذي اخذ في الانزياح شيئا فشيئا مع توالي المواقف المحبطة سواء من جهة المجلس العسكري ( المكلل بالزهور ) او من جماعة الاخوان المسلمين الفصيل الذي يحوز على ثقة الكثير من جموع المصريين بطبيعة التمسح بالدين اضافة الى قوة وتشعب التنظيم الداخلي او حتى التيار السلفي والذي تغلل في وعي الكثيرين من خلال ميديا وفضائيات وشيوخ نجوم وجد بخطابهم المصري البسيط بديلا مقنعا عن فشل المثقف والفنان والسياسي في التواصل معه بلغة يفهمها وتواصل يمنحه الشعور بالانتماء .
اختفي التوحد وظهرت على السطح الخلافات الواضحة بل والتناقض وتراشق الاتهامات لان المصالحة كانت وقتية وتم اختزالها ( بوعي او غيابه ) في قضية رحيل شخص او حتى نظام بأكمله ومحاكمته بل والتشفي به وهو المسار الانفعالي العاطفي المتغلل بوعي جموع المصريين والذي للمفارقة دأب النظام السابق نفسه على استخدامه وتوجيه الرأي العام من خلاله بواسطة ادوات الهائية مختلفة ( كرة قدم – فضائح جنسية – صراع طائفي – ازمات مفتعلة وغيرها ) وبحيث يتم تمييع القضية الرئيسية وهي التحول البنيوي للنهضة والتنمية الحقيقية الشاملة .
اصلاح ديمقراطي ام ثورة اجتماعية شاملة؟
يكمن مأزق الثورة المصرية الحقيقي في تداخل وتشابك الرغبة في الإصلاح الفوري مع مفهوم التغيير العميق لبنية المجتمع ووسائل انتاجه ومكوناته باختلافها وهو ما قامت وتقوم الثورات الحقيقية من اجل تحقيقه وفرضه على الواقع ..
فبينما يكون الإصلاح جزئي وفوري ولا يشترط تغيير الهيكل الحاوي لمفرداته ،وهو بالمناسبة كان شعار الثوّار في اليوم الأول والذي تطور للمطالبة برحيل النظام باكمله بعد احداث ميدان التحرير الدموية وسقوط الشهداء .. يكون التغيير هو تجسيد لرؤية محددة واضحة المعالم تستهدف استبدال نسق وبناء سياسي واجتماعي واقتصادي بآخر طبقا لأهداف اتفق عليها غالبية الشعب سواء من خلال الاستفتاء الديمقراطي او الثوريّ.
وهنا يجب ان نفرق بوضوح ما بين الزمن كخلفية اصلاحية مضببة تمنح النظام القديم ( المراد اصلاحه ) الوقت والادوات لاعادة بسط هيمنته والتحكم بالمجتمع وما بين الزمن كتراكم اجراءي ثوري على غرار ما حدث اثناء الثورة الفرنسية مثلا ( بمراحلها الثلاثة ) والتي امتدت نحو عشر سنوات من 1789 والى 1799 عندما بدأ التيار الثوري في التراجع وعادت البورجوازية لتسيطر على الحكم ولتضع دستورا جديدا وتتحالف مع الجيش، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام نظام نابليون بونابارت التوسعي.
ومع اختلاف خصوصية الحالة المصرية تبقى فكرة جوهرية يجب وجودها والتمحور حولها وهي الهدف .. وهي هنا تختلف عن الرغبات او المطالب ( وهذا خلط آخر ) فجميع من يقرأ تلك السطور يعي جيدا ان المصريين قد ثاروا رغبة في حياة سياسية واقتصادية واجتماعية افضل .. وقد كان هذا هو الإطار الحاوي والجامع لتشظي الموزاييك المصري وهي عادة رغبات ومطالب كلاسيكية لن تجد من يختلف عليها .. لكن الخلاف .. كل الخلاف سيبدأ ويسطع عندما نحاول مسائلة الواقع : كيف ؟ كطريق ووسائل وايضا تصور ومفهوم .. لذلك شاهدنا من اعتبر ما تحقق حتى اللحظة نصرا وانجازا وكافيا بينما من اعتبره خطوة اولي تستلزم المزيد والمزيد من الخطوات وما بين الرضا التام والنفي الكامل يتوزع الخطابين المؤسسي ( الديني والعسكري ) والشعبي ( نخب وبسطاء ) برؤي تتشابك وتتداخل واحيانا تتناحر لتبعد بنا اكثر فاكثر عن اقتناص المعنى واعادة تشكيل الواقع.
المجلس العسكري ومأزق خط الدفاع الأخير
مؤسسة رسمية تتمتع بالشعبية ( الجيش المصري ) لأسباب تاريخية وعاطفية لكنها تبقى على مستوى القيادة والبناء جزءا طبيعيا وامتدادا للنظام السابق بمكوناته الثقافية ورؤيته للواقع وكذلك تتصف بما يتصف به المجتمع المصري ذاته من تفاوت في الوعي وهرمية اقتصادية لذلك كان ما انتجه الاختبار الثوري المفروض عليه من تخبط يصل لحد التناقض في التعاطي مع الثورة والثوار بداية من التحية الشهيرة لمتحدثه الرسمي لارواح الشهداء وبين سحل وتعذيب بعض المتظاهرين ومن توالي البيانات المتوحدة مع مطالب الثورة ومن اجراءات بطيئة غير منجزة وصفها الكثيرون بانها كانت فرصة ذهبية لاركان النظام السابق لترتيب الاوراق وسد الثغرات بل والهروب خارج البلاد .. ومن تشديد وتأكيد على الضرب بيد من حديد على مشعلو الحرائق بالقضية الطائفية وبين ذلك التحالف الذي لم يعد خافيا على مراقب مع الاخوان والتيار الديني عموما.
كل تلك التناقضات المربكة كانت وليدة مأزق المسئولية التاريخية التي وجد بسببها قادة المجلس العسكري نفسهم بازائها من مطلب شعبي عارم وضاغط لاقصاء ومحاكمة رئيسه الأعلي ( مبارك ) وبقية افراد نظامه وما صاحبه من تمردات محدودة داخليا من الظباط ذوي الرتب الأقل والذي تم التعامل معه بحزم وسرعة وسط مباركة الجميع اعلاما ونخبا وبسطاء .. وهذه المباركة والتخندق يمكن تحليله ورده الى حقيقة انه مع انهيار المؤسسة العسكرية او الخروج والتمرد عليها فلن يتواجد على الساحة اي ضمان حقيقي لتنظيم الامور وحماية ما تحقق من مكتسبات ثورية وان كانت غير كافية حتى الان .
وبعد ان كان يقوم بدور رجل الاطفاء مرغما وجد المجلس العسكري النار تكاد تطاله هو نفسه وهنا لن نجد الامر عسيرا كي نتصور ما قد حدده قادته كأهداف رئيسة يجب تحقيقها باقصي قدر من السرعة وهي كما اعتقد : الحفاظ على امن واستقرار البلاد داخليا وحدوديا مع محاولة ارضاء من قاموا بالثورة وبما لا يعرض تماسك المجلس ذاته ووجوده للخطر وهنا المأزق الحقيقي نظرا لحقيقة انه جزءا وامتدادا للنظام السابق والذي اصبح مطالبا بمحاكمته بل والتنكيل به ارضاءا لمشاعر الغضب والقهر التي سكنت نفوس المصريين لعقود .. يمكننا في ضوء هذا الفهم استيعاب الكثير من الاشياء كالبطء في الاجراءات وبالونات الاختبار من عينة العفو عن الرئيس ودعاوي المصالحة ورد الاموال وانتهاءا بالحكم الهزلي على امين شرطة بتهمة قتل المتظاهرين وذلك على خلفية مستمرة من الحديث عن حالة صحية متأخرة للرئيس السابق تمنع سجنه او مثوله امام القضاء وهذا كله لا يتعارض مع حقيقة ان المجلس نفسه اختار الانحياز للثورة والشعب منذ اللحظة الأزمة التي سبقت التنحي وبالتالي يتحول الجدل هنا ( وهو الاصح ) من التفتيش في النوايا الى تفهم طبيعة وبنية المجلس الذي يقود البلاد الان وان ما يبدو ارتباكات او تناقضات ما هو الا تعبير طبيعي لوعي واسلوب درب ونشأ على طاعة الاوامر وعلى المواجهات الواضحة العريضة المباشرة ثم وجد نفسه فجأة ازاء وضع وحالة شديدة التشابك والتعقيد تختلف ادواتها ومكوناتها عن ما جبل واعتاد عليه .. ولان العقل الفردي او الجمعي في حالات الفوضى والغموض عادة ما يجنح الى التصنيف والاستعانة ومحاولة الاستفادة من اكثر معطيات المعادلة تنظيما ووضوحا لذلك فقد كان هذا الميل او التقارب مع جماعة الاخوان المسلمين.
الإخوان .. رجال لكل العصور
تتميز جماعة الاخوان المسلمين بصفتين متناقضتين اعتقد انهما سر نجاحها في البقاء دوما داخل اطار اللعبة السياسة بالحياة المصرية على تعاقب الانظمة واختلافها .. الصفتين هما: الصرامة الشديدة داخليا والمرونة الفائقة بذات الوقت خارجيا .. اي بعبارة أخرى .. التنظيم الشديد ووضوح الهدف ونفاذ الأوامر عبر تراتب هرمي يحتل قمته مكتب الإرشاد بحيث يكون الخروج عليه هو خروج عن الجماعة ومن ثم الدين نفسه .. بينما القابلية لابداء اشد المواقف والخطابات مرونة حسب مقتضيات الحال واللحظة التاريخية والاستعداد الدائم لعقد كل الصفقات المعلنة او السريّة مع كل الاطراف كيفما اقتضت المصلحة سواء نظام حكم ملكي او عسكري او جمهوري او حتى مدني علماني ليبرالي او يساري بل ولو كان هذا الطرف استعماري توسعي يجاهر الإسلام نفسه العداء كما حدث من خلال الاجتماعات السرية التي افتضح امرها بالسفارة الامريكية بالقاهرة ..
بوصفها تجمعا او هيئة دينية فاخلاقيا تستحق الجماعة وصف النفاق والتلون بامتياز ولكن بوصفها تنظيم سياسي في حقيقة الأمر يتخذ لنفسه شكلا دينيا فهي لا تمارس اكثر من فروضات المصلحة ومتغيرات المرحلة لذلك كان هذا التاريخ الطويل من الازدواجية .. اي اعادة انتاج الخطاب الديني ( الآخروي في بنيته ) عبر ادوات ليست فقط دنيوية بل وتتصف احيانا باللاأخلاقية استهدافا للوصول الى الحكم السلطوي الديني وهو الحكم الجامع المانع الذي لا سبيل ابدا للخروج عليه او رفضه فضلا عن نقده .
ولكن لاننا بصدد لحظة تاريخية فارقة تعيد صياغة العديد من الافكار والعلاقات ما بين الأشياء فلم تكن الجماعة ذاتها بمعزل عن روح التمرد التي اندلعت بنفوس اجيال الشباب من المصريين ومن ضمنهم شباب الأخوان انفسهم .. وهو تمردا في جانب منه على الفكرة والهيمنة الأبوية بكل انماطها واسقاطاتها .. لذلك فقد شاهدنا الجماعة تعلن رسميا عدم مشاركتها في مظاهرات الخامس والعشرين من يناير بينما يضرب مجموعة كبيرة من شبابها بهذا الموقف عرض الحائط وينضم لجموع المتظاهرين بوصفهم مصريين في المقام الأول ( الإطار العام ) لتعود الجماعة ذاتها بمرونة وذكاء ( بعد ان تحولت المظاهرات الى ثورة شعبية ) لتغير سياستها وتحشد كل قواها حتى بالاقاليم .. ولكن لان المصلحة ووحدها هي ما كان وسيظل يحكم مواقف جماعة الاخوان المسلمين لذلك فقد قبلوا بذلك الحوار الخاص الذي دعاهم اليه عمر سليمان والذي ضم اليهم رفعت السعيد ( اكبر سبة في تاريخ اليسار ) رئيس حزب التجمع .. ذلك الاجتماع الذي قوبل باستهجان داخلي على مستوى شباب الجماعة وتسبب في حدوث بعض الاستقالات والانشقاقات مما اضطر قيادة الاخوان الى وقف الحوار والتنصل منه.
اذا نحن هنا امام تحول ( ربما غير مسبوق ) في بنية الجماعة على المستوي الداخلي مرده في الأساس المشاركة في الشعور العام بضرورة التغيير لكنه يبقى تحول مجهض او مبتور نظرا لنجاح الخطاب الأخواني في الالتفاف على المزاج العام لجموع المصريين والعزف المشترك مع المجلس العسكري ( ذو الشعبية الاكبر وايضا الهيبة ) على نغمة الاستقرار .. أتي ذلك ايضا بالتوازي المنظم لتشويه صورة الاصوات الليبرالية والعلمانية سواء الفرديّة او الحزبية وتلك الأخيرة خسرت كثيرا بقبولها دور الكومبارس الديكوري في النظام المباركي فلم يعد احد يصدقها او يثق بها حتى اعضائها !
كان التقاء المصالح للطرفين ( المجلس العسكري والاخوان ) يقتضي بان يكون للجماعة وجودا شرعيا ما غير محظور يمهد ويسهل لهم الطريق للوصول الى السلطة كما يتمنون مقابل ان يساند الاخوان قرارات المجلس العسكري بدءا من ضرورة قول نعم في الاستفتاء المعيب على الدستور المهتريء ومرورا بالاستفادة اللوجيستية والتنظيمية والبشرية لتشعب اذرع الاخوان في جميع انحاء البلاد وعلى مستوى القاع بالقاعدة الشعبية وانتهاءا بفرض مزيد من العزلة والاقصاء على الاصوات التي قد تغرد خارج السرب او تجرؤ على ازاحة الستار ورؤية ما لا يسمح لجمهور المشاهدين بمعرفته ،صفقة وقتية سرعان ما ستنتهي اشتراطاتها ليبقى الخاسر الحقيقي هو المصري المضلل والذي تتم سرقة ثورته وثمار هبته التاريخية غير المسبوقة بتنظيم متقن واحكام.
الطريق الثالث بين الضرورة والممكن
في احد الايام القليلة التالية لانتشار الجيش بميدان التحرير قال لي احد الأصدقاء ( وهو من نجوم الخطاب الليبرالي وبالطبع من دعاة الدولة المدنية ) على مرأي من دبابة كتب عليها يسقط مبارك : ” لو كانت هتنتهي ان الاخوان هيمسكوا الحكم يبئا الجيش يمسك ارحم !”
والدلالة هنا واضحة .. والفكرة مكررة واعيد استهلاكها من قبل النظام البائد ليس فقط على المستوى الداخلي بل بصورة اكبر على المستوى الدولي الضاغط لتفعيل آليات ديمقراطية حقيقية .. بينما يتم الآن وبمرحلة تاريخية يتصدر بها الخطاب الديني المهادن للحكم العسكري المشهد ليثير اكثر فاكثر مخاوف وفزع قطاع عريض من دعاة الدولة المدنية وكذلك جموع المسيحيين بمصر من امكانية وصول الاخوان للحكم وهو بالفعل ليس امرا مستبعدا عن طريق بوابة الانتخابات البرلمانية المزمع اقامتها قريبا في ظل هذا المناخ المرتبك.
فهل خيارات ومقدرات هذا الوطن بالفعل اصبحت تنحصر في المفاضلة ما بين سلطتي العسكر والدين ؟
يقترن جزء هامّ من الاجابة على هذا السؤال بمحاولة استقراء المزاج الشعبي وهي محاولة ليست بالسهلة لعدة عوامل ليس آخرها كونه في اغلب الاحيان متقلبا ملولا يشكل الدين ربما مكونا اساسيا في تكوينه لكنه يبقى مكونا سطحيا او وافدا غير اصيلا ساعدت في نموه وانتشاره سوء الاحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية اي انه مرتهن بعوامل خارجة عنه ( الدين ) وبتغيرها يتغير حضوره هو ذاته ،وهنا إنا لا أتحدث عن الدين بوصفه تلك العبادة الطقسية والدعامة الروحيّة في مظهرها البسيط والفردي وإنما بوصفه رؤية للعالم والحياة ومنهجا فكريا وسياسيا واجتماعيا أيضا يقوم على أساسه التصنيف والاستبعاد أو الولاء والبراء أي بالمفهوم التعبوي المسيّس وهذا هو ما تراهن عليه جماعة الإخوان أو أي فصيل إسلامي سياسي آخر.
أميل إلى القول ( والأمر لا يخلو من مخاطرة ) إلى أن الرهان الأخير سيكون منحازا لقيمة الحريّة والتي برهنت التجارب المتكررة على عجز أي خطاب ديني على إنتاج مفرداتها فضلا عن عدم وضوح أية رؤية نهضوية أو تنموية حقيقية ابعد من الوعد المبهم بمجتمع الفضيلة والكفاية .. على الجانب الآخر من المستحيل أن نتوقع أن تلك المئات من ألوف الشباب بمختلف المرجعيات والخلفيات الاجتماعية والثقافية والتي خرجت لتنادي بسقوط النظام ( إرادة التغيير ) ووقفت بشجاعة نادرة لتتصدي لتلاحق هجمات البلطجية سواء بالميدان أو الأحياء الشعبية ( استعداد للتضحية أو التعرض للإيذاء الجسدي ) ثم واصلت الخروج والتظاهر من اجل الضغط على المجلس العسكري للتسريع بتنفيذ مطالب الثورة ( وعي سياسي ) سوف تقبل في النهاية بحكم ديني سيكون غالبا أكثر تشددا من سابقه السلطوي الديكتاتوري الفاسد على مستوى الحريات العامّة والخاصة والتعاطي السليم مع أدوات الديمقراطية السياسية وهنا لا نغفل مفارقة أن الرهان أيضا قائما على جماعة الأخوان المسلمين ذاتها بخطابها ومواقفها المتناقضة والمنفصلة عن تطلعات وأشواق أجيال جديدة للمستقبل بكل ما يحمله من وعود بحياة أفضل وأكثر كرامة وإنسانية بينما يبقى الدور والعبء التاريخي المنوط به النخب الاجتماعية من كتّاب وسياسيين وناشطين حقوقيين وكل من يفترض به انه يحمل وعيا مغايرا نحو توعية جموع المصريين وابتكار آليات تواصل مختلفة غير متعالية او معقدة تستطيع رأب صدع سوء التفاهم والقطيعة التي مازالت تقف كحجر عثرة بينهم وان يتخلص البعض من سطوة الفكرة النخبوية الانعزالية والمشوبة بأصداء طبقية ونرجسية ويكونوا أكثر التصاقا بالجماهير ومتطلباتهم .. أكثر احتراما لبدائية مناهجهم التعبيرية التي شكلتها نفس القطيعة .. وأكثر استعدادا وإخلاصا لتحمل ضريبة الحرية .. وبالمقابل فان تلك الأغلبية الصامتة يجب عليها أن تكون أكثر ثقة بمفكريها .. أكثر رغبة في التحرر بالفعل لا بالقول أو التمني .. اقل سلبية واقوي في مواجهة الموروث والرجعي والسلطوي .. وتلك العلاقة الجدلية سيكون منتوجها التفاعلي حتما هو التحرر .
” لقد قمنا بتغيير الرئيس، ولكن الرجل الثاني في النظام القديم لازال في السلطة. لقد كسبنا معركة، ولكننا لم نكسب الحرب بعد ”
” أثناء الانتفاضة ضحى العمال بحياتهم ببسالة .. ولكنهم حصلوا فقط على تغيير دستوري بينما كانوا يريدون شروطاً أفضل للحياة وشكل آخر للدولة ”
جاءت هذه الكلمات على لسان بعض قادة العمال في اجتماع ممثلي النقابات والمنظمات الجماهيرية بعد أيام قليلة من انتفاضة بوليفيا ( أكتوبر 2003 ) والتي اندلعت شرارتها بواسطة الطبقة العاملة ( عمال المناجم ) وهي التي كان مقدرا لها أن تنضم إلى مصاف الثورات الشعبية التاريخية الكبري ذات التأثير العميق لولا سيطرة الأصوات الداعية للاستقرار والمهادنة وضرورة الانتظار لمنح الفرصة وإعطاء الوقت فحدث أن سمح هذا بالطبع للحكومة الحالية وقتها وللطبقة الحاكمة من ورائها أن يبقوا على قيد الحياة، وتم بعدها تبديد القوة المحتملة للانتفاضة ولقدرتها على إحداث التغيير الحقيقي المطلوب.
لا يختلف هذا المشهد كثيرا عن اللحظة التاريخية المصريّة الراهنة التي لا نكتفي ( لحسن الحظ ) بمشاهدتها الآن بل ونسهم أيضا في تشكيلها وتحديد وجهتها سواء سلبا أو إيجابا لكن بنسب متفاوتة من الوعي سواء بدروس التاريخ أو قراءة الحاضر أو استشراف المستقبل ،كذلك بنوايا لا تتفاوت فقط بل وقد تتعارض أيضا على مستوى النهاية ( الثمرة ) التي تتوج هذا الحراك الثوري كل حسب ايدولوجيته أو حساباته ومصالحة الخاصة ،ذلك التفاوت الذي افرز في المرحلة اللاحقة على تنحي مبارك ذلك الانقسام في التعاطي مع استمرار الوقفات الاحتجاجية ما بين مؤيد ومعارض وما جري تمريره عبر وسائل الإعلام والخطاب الديني ( إخوان – سلفيين ) وكذلك الخطاب الرسمي السلطوي ( المجلس العسكري ) من ضرورة الاستقرار والامتثال لنتائج صندوق الاستفتاء ( على دستور مهتريء معني بالتغيير لا التعديل ) وفي غمار هذا التخندق الغير مسبوق لقوى وتيارات لم يوحد خطابها سوى المصلحة تم إنتاج مقولات هزلية من عينة دفع عجلة الإنتاج والأجندات الخاصة حتى وصل الأمر لان تصف جماعة الإخوان من خرج بجمعة الغضب 27 مايو بالكفرة والملاحدة والشيوعيين وبان هذه الوقفة هي جمعة الوقيعة ما بين الشعب والمجلس العسكري ،ناهيك عن ذلك الصراع النظري العقيم بين رؤية واتهامات يسارية ليبرالية حول الأولويات واليات العمل وملامح المرحلة المقبلة بينما كان يلوح أحيانا في الأفق أصداء لصراع مكتوم حول الزعامة ومن يحق له التحدث باسم الثورة ذاتها وهو صراع يتضمن بداخله تنافس وجودي بين جيل الشباب ( الصانع الحقيقي للثورة ) وبين جيل أو أجيال حاربت طويلا وأنتجت آلاف الصفحات وخاضت الكثير من الحروب ( بعضها دون كيشوتي أو ديكوري ) لكنها تفاجأت مثل الآخرين بتحقق الحلم الذي طال انتظاره حتى كاد أن يكون مستحيلا .
هذا التفاوت في المواقف والخطاب والذي اختفي او كاد بصورة أدهشت جميع المراقبين في الايام الأولى لثورة الغضب المصرية 25 يناير وما تلاها حتى اعلان الرئيس السابق عن تنحيه عن السلطة على لسان نائبه ورئيس جهاز المخابرات السابق عمر سليمان 11 فبراير كان باعثا على كثير من الامل ( الزائف ) في ان تستطيع القوى الفاعلة بالساحة المصرية وكذلك الوليدة من تجاوز خلافاتها وتعارض توجهاتها ومصالحها نحو اقامة تحالفا وتجمعا ينصهر فيه الجميع من اجل مصلحة الجميع .. ذلك الامل الذي اخذ في الانزياح شيئا فشيئا مع توالي المواقف المحبطة سواء من جهة المجلس العسكري ( المكلل بالزهور ) او من جماعة الاخوان المسلمين الفصيل الذي يحوز على ثقة الكثير من جموع المصريين بطبيعة التمسح بالدين اضافة الى قوة وتشعب التنظيم الداخلي او حتى التيار السلفي والذي تغلل في وعي الكثيرين من خلال ميديا وفضائيات وشيوخ نجوم وجد بخطابهم المصري البسيط بديلا مقنعا عن فشل المثقف والفنان والسياسي في التواصل معه بلغة يفهمها وتواصل يمنحه الشعور بالانتماء .
اختفي التوحد وظهرت على السطح الخلافات الواضحة بل والتناقض وتراشق الاتهامات لان المصالحة كانت وقتية وتم اختزالها ( بوعي او غيابه ) في قضية رحيل شخص او حتى نظام بأكمله ومحاكمته بل والتشفي به وهو المسار الانفعالي العاطفي المتغلل بوعي جموع المصريين والذي للمفارقة دأب النظام السابق نفسه على استخدامه وتوجيه الرأي العام من خلاله بواسطة ادوات الهائية مختلفة ( كرة قدم – فضائح جنسية – صراع طائفي – ازمات مفتعلة وغيرها ) وبحيث يتم تمييع القضية الرئيسية وهي التحول البنيوي للنهضة والتنمية الحقيقية الشاملة .
اصلاح ديمقراطي ام ثورة اجتماعية شاملة؟
يكمن مأزق الثورة المصرية الحقيقي في تداخل وتشابك الرغبة في الإصلاح الفوري مع مفهوم التغيير العميق لبنية المجتمع ووسائل انتاجه ومكوناته باختلافها وهو ما قامت وتقوم الثورات الحقيقية من اجل تحقيقه وفرضه على الواقع ..
فبينما يكون الإصلاح جزئي وفوري ولا يشترط تغيير الهيكل الحاوي لمفرداته ،وهو بالمناسبة كان شعار الثوّار في اليوم الأول والذي تطور للمطالبة برحيل النظام باكمله بعد احداث ميدان التحرير الدموية وسقوط الشهداء .. يكون التغيير هو تجسيد لرؤية محددة واضحة المعالم تستهدف استبدال نسق وبناء سياسي واجتماعي واقتصادي بآخر طبقا لأهداف اتفق عليها غالبية الشعب سواء من خلال الاستفتاء الديمقراطي او الثوريّ.
وهنا يجب ان نفرق بوضوح ما بين الزمن كخلفية اصلاحية مضببة تمنح النظام القديم ( المراد اصلاحه ) الوقت والادوات لاعادة بسط هيمنته والتحكم بالمجتمع وما بين الزمن كتراكم اجراءي ثوري على غرار ما حدث اثناء الثورة الفرنسية مثلا ( بمراحلها الثلاثة ) والتي امتدت نحو عشر سنوات من 1789 والى 1799 عندما بدأ التيار الثوري في التراجع وعادت البورجوازية لتسيطر على الحكم ولتضع دستورا جديدا وتتحالف مع الجيش، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام نظام نابليون بونابارت التوسعي.
ومع اختلاف خصوصية الحالة المصرية تبقى فكرة جوهرية يجب وجودها والتمحور حولها وهي الهدف .. وهي هنا تختلف عن الرغبات او المطالب ( وهذا خلط آخر ) فجميع من يقرأ تلك السطور يعي جيدا ان المصريين قد ثاروا رغبة في حياة سياسية واقتصادية واجتماعية افضل .. وقد كان هذا هو الإطار الحاوي والجامع لتشظي الموزاييك المصري وهي عادة رغبات ومطالب كلاسيكية لن تجد من يختلف عليها .. لكن الخلاف .. كل الخلاف سيبدأ ويسطع عندما نحاول مسائلة الواقع : كيف ؟ كطريق ووسائل وايضا تصور ومفهوم .. لذلك شاهدنا من اعتبر ما تحقق حتى اللحظة نصرا وانجازا وكافيا بينما من اعتبره خطوة اولي تستلزم المزيد والمزيد من الخطوات وما بين الرضا التام والنفي الكامل يتوزع الخطابين المؤسسي ( الديني والعسكري ) والشعبي ( نخب وبسطاء ) برؤي تتشابك وتتداخل واحيانا تتناحر لتبعد بنا اكثر فاكثر عن اقتناص المعنى واعادة تشكيل الواقع.
المجلس العسكري ومأزق خط الدفاع الأخير
مؤسسة رسمية تتمتع بالشعبية ( الجيش المصري ) لأسباب تاريخية وعاطفية لكنها تبقى على مستوى القيادة والبناء جزءا طبيعيا وامتدادا للنظام السابق بمكوناته الثقافية ورؤيته للواقع وكذلك تتصف بما يتصف به المجتمع المصري ذاته من تفاوت في الوعي وهرمية اقتصادية لذلك كان ما انتجه الاختبار الثوري المفروض عليه من تخبط يصل لحد التناقض في التعاطي مع الثورة والثوار بداية من التحية الشهيرة لمتحدثه الرسمي لارواح الشهداء وبين سحل وتعذيب بعض المتظاهرين ومن توالي البيانات المتوحدة مع مطالب الثورة ومن اجراءات بطيئة غير منجزة وصفها الكثيرون بانها كانت فرصة ذهبية لاركان النظام السابق لترتيب الاوراق وسد الثغرات بل والهروب خارج البلاد .. ومن تشديد وتأكيد على الضرب بيد من حديد على مشعلو الحرائق بالقضية الطائفية وبين ذلك التحالف الذي لم يعد خافيا على مراقب مع الاخوان والتيار الديني عموما.
كل تلك التناقضات المربكة كانت وليدة مأزق المسئولية التاريخية التي وجد بسببها قادة المجلس العسكري نفسهم بازائها من مطلب شعبي عارم وضاغط لاقصاء ومحاكمة رئيسه الأعلي ( مبارك ) وبقية افراد نظامه وما صاحبه من تمردات محدودة داخليا من الظباط ذوي الرتب الأقل والذي تم التعامل معه بحزم وسرعة وسط مباركة الجميع اعلاما ونخبا وبسطاء .. وهذه المباركة والتخندق يمكن تحليله ورده الى حقيقة انه مع انهيار المؤسسة العسكرية او الخروج والتمرد عليها فلن يتواجد على الساحة اي ضمان حقيقي لتنظيم الامور وحماية ما تحقق من مكتسبات ثورية وان كانت غير كافية حتى الان .
وبعد ان كان يقوم بدور رجل الاطفاء مرغما وجد المجلس العسكري النار تكاد تطاله هو نفسه وهنا لن نجد الامر عسيرا كي نتصور ما قد حدده قادته كأهداف رئيسة يجب تحقيقها باقصي قدر من السرعة وهي كما اعتقد : الحفاظ على امن واستقرار البلاد داخليا وحدوديا مع محاولة ارضاء من قاموا بالثورة وبما لا يعرض تماسك المجلس ذاته ووجوده للخطر وهنا المأزق الحقيقي نظرا لحقيقة انه جزءا وامتدادا للنظام السابق والذي اصبح مطالبا بمحاكمته بل والتنكيل به ارضاءا لمشاعر الغضب والقهر التي سكنت نفوس المصريين لعقود .. يمكننا في ضوء هذا الفهم استيعاب الكثير من الاشياء كالبطء في الاجراءات وبالونات الاختبار من عينة العفو عن الرئيس ودعاوي المصالحة ورد الاموال وانتهاءا بالحكم الهزلي على امين شرطة بتهمة قتل المتظاهرين وذلك على خلفية مستمرة من الحديث عن حالة صحية متأخرة للرئيس السابق تمنع سجنه او مثوله امام القضاء وهذا كله لا يتعارض مع حقيقة ان المجلس نفسه اختار الانحياز للثورة والشعب منذ اللحظة الأزمة التي سبقت التنحي وبالتالي يتحول الجدل هنا ( وهو الاصح ) من التفتيش في النوايا الى تفهم طبيعة وبنية المجلس الذي يقود البلاد الان وان ما يبدو ارتباكات او تناقضات ما هو الا تعبير طبيعي لوعي واسلوب درب ونشأ على طاعة الاوامر وعلى المواجهات الواضحة العريضة المباشرة ثم وجد نفسه فجأة ازاء وضع وحالة شديدة التشابك والتعقيد تختلف ادواتها ومكوناتها عن ما جبل واعتاد عليه .. ولان العقل الفردي او الجمعي في حالات الفوضى والغموض عادة ما يجنح الى التصنيف والاستعانة ومحاولة الاستفادة من اكثر معطيات المعادلة تنظيما ووضوحا لذلك فقد كان هذا الميل او التقارب مع جماعة الاخوان المسلمين.
الإخوان .. رجال لكل العصور
تتميز جماعة الاخوان المسلمين بصفتين متناقضتين اعتقد انهما سر نجاحها في البقاء دوما داخل اطار اللعبة السياسة بالحياة المصرية على تعاقب الانظمة واختلافها .. الصفتين هما: الصرامة الشديدة داخليا والمرونة الفائقة بذات الوقت خارجيا .. اي بعبارة أخرى .. التنظيم الشديد ووضوح الهدف ونفاذ الأوامر عبر تراتب هرمي يحتل قمته مكتب الإرشاد بحيث يكون الخروج عليه هو خروج عن الجماعة ومن ثم الدين نفسه .. بينما القابلية لابداء اشد المواقف والخطابات مرونة حسب مقتضيات الحال واللحظة التاريخية والاستعداد الدائم لعقد كل الصفقات المعلنة او السريّة مع كل الاطراف كيفما اقتضت المصلحة سواء نظام حكم ملكي او عسكري او جمهوري او حتى مدني علماني ليبرالي او يساري بل ولو كان هذا الطرف استعماري توسعي يجاهر الإسلام نفسه العداء كما حدث من خلال الاجتماعات السرية التي افتضح امرها بالسفارة الامريكية بالقاهرة ..
بوصفها تجمعا او هيئة دينية فاخلاقيا تستحق الجماعة وصف النفاق والتلون بامتياز ولكن بوصفها تنظيم سياسي في حقيقة الأمر يتخذ لنفسه شكلا دينيا فهي لا تمارس اكثر من فروضات المصلحة ومتغيرات المرحلة لذلك كان هذا التاريخ الطويل من الازدواجية .. اي اعادة انتاج الخطاب الديني ( الآخروي في بنيته ) عبر ادوات ليست فقط دنيوية بل وتتصف احيانا باللاأخلاقية استهدافا للوصول الى الحكم السلطوي الديني وهو الحكم الجامع المانع الذي لا سبيل ابدا للخروج عليه او رفضه فضلا عن نقده .
ولكن لاننا بصدد لحظة تاريخية فارقة تعيد صياغة العديد من الافكار والعلاقات ما بين الأشياء فلم تكن الجماعة ذاتها بمعزل عن روح التمرد التي اندلعت بنفوس اجيال الشباب من المصريين ومن ضمنهم شباب الأخوان انفسهم .. وهو تمردا في جانب منه على الفكرة والهيمنة الأبوية بكل انماطها واسقاطاتها .. لذلك فقد شاهدنا الجماعة تعلن رسميا عدم مشاركتها في مظاهرات الخامس والعشرين من يناير بينما يضرب مجموعة كبيرة من شبابها بهذا الموقف عرض الحائط وينضم لجموع المتظاهرين بوصفهم مصريين في المقام الأول ( الإطار العام ) لتعود الجماعة ذاتها بمرونة وذكاء ( بعد ان تحولت المظاهرات الى ثورة شعبية ) لتغير سياستها وتحشد كل قواها حتى بالاقاليم .. ولكن لان المصلحة ووحدها هي ما كان وسيظل يحكم مواقف جماعة الاخوان المسلمين لذلك فقد قبلوا بذلك الحوار الخاص الذي دعاهم اليه عمر سليمان والذي ضم اليهم رفعت السعيد ( اكبر سبة في تاريخ اليسار ) رئيس حزب التجمع .. ذلك الاجتماع الذي قوبل باستهجان داخلي على مستوى شباب الجماعة وتسبب في حدوث بعض الاستقالات والانشقاقات مما اضطر قيادة الاخوان الى وقف الحوار والتنصل منه.
اذا نحن هنا امام تحول ( ربما غير مسبوق ) في بنية الجماعة على المستوي الداخلي مرده في الأساس المشاركة في الشعور العام بضرورة التغيير لكنه يبقى تحول مجهض او مبتور نظرا لنجاح الخطاب الأخواني في الالتفاف على المزاج العام لجموع المصريين والعزف المشترك مع المجلس العسكري ( ذو الشعبية الاكبر وايضا الهيبة ) على نغمة الاستقرار .. أتي ذلك ايضا بالتوازي المنظم لتشويه صورة الاصوات الليبرالية والعلمانية سواء الفرديّة او الحزبية وتلك الأخيرة خسرت كثيرا بقبولها دور الكومبارس الديكوري في النظام المباركي فلم يعد احد يصدقها او يثق بها حتى اعضائها !
كان التقاء المصالح للطرفين ( المجلس العسكري والاخوان ) يقتضي بان يكون للجماعة وجودا شرعيا ما غير محظور يمهد ويسهل لهم الطريق للوصول الى السلطة كما يتمنون مقابل ان يساند الاخوان قرارات المجلس العسكري بدءا من ضرورة قول نعم في الاستفتاء المعيب على الدستور المهتريء ومرورا بالاستفادة اللوجيستية والتنظيمية والبشرية لتشعب اذرع الاخوان في جميع انحاء البلاد وعلى مستوى القاع بالقاعدة الشعبية وانتهاءا بفرض مزيد من العزلة والاقصاء على الاصوات التي قد تغرد خارج السرب او تجرؤ على ازاحة الستار ورؤية ما لا يسمح لجمهور المشاهدين بمعرفته ،صفقة وقتية سرعان ما ستنتهي اشتراطاتها ليبقى الخاسر الحقيقي هو المصري المضلل والذي تتم سرقة ثورته وثمار هبته التاريخية غير المسبوقة بتنظيم متقن واحكام.
الطريق الثالث بين الضرورة والممكن
في احد الايام القليلة التالية لانتشار الجيش بميدان التحرير قال لي احد الأصدقاء ( وهو من نجوم الخطاب الليبرالي وبالطبع من دعاة الدولة المدنية ) على مرأي من دبابة كتب عليها يسقط مبارك : ” لو كانت هتنتهي ان الاخوان هيمسكوا الحكم يبئا الجيش يمسك ارحم !”
والدلالة هنا واضحة .. والفكرة مكررة واعيد استهلاكها من قبل النظام البائد ليس فقط على المستوى الداخلي بل بصورة اكبر على المستوى الدولي الضاغط لتفعيل آليات ديمقراطية حقيقية .. بينما يتم الآن وبمرحلة تاريخية يتصدر بها الخطاب الديني المهادن للحكم العسكري المشهد ليثير اكثر فاكثر مخاوف وفزع قطاع عريض من دعاة الدولة المدنية وكذلك جموع المسيحيين بمصر من امكانية وصول الاخوان للحكم وهو بالفعل ليس امرا مستبعدا عن طريق بوابة الانتخابات البرلمانية المزمع اقامتها قريبا في ظل هذا المناخ المرتبك.
فهل خيارات ومقدرات هذا الوطن بالفعل اصبحت تنحصر في المفاضلة ما بين سلطتي العسكر والدين ؟
يقترن جزء هامّ من الاجابة على هذا السؤال بمحاولة استقراء المزاج الشعبي وهي محاولة ليست بالسهلة لعدة عوامل ليس آخرها كونه في اغلب الاحيان متقلبا ملولا يشكل الدين ربما مكونا اساسيا في تكوينه لكنه يبقى مكونا سطحيا او وافدا غير اصيلا ساعدت في نموه وانتشاره سوء الاحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية اي انه مرتهن بعوامل خارجة عنه ( الدين ) وبتغيرها يتغير حضوره هو ذاته ،وهنا إنا لا أتحدث عن الدين بوصفه تلك العبادة الطقسية والدعامة الروحيّة في مظهرها البسيط والفردي وإنما بوصفه رؤية للعالم والحياة ومنهجا فكريا وسياسيا واجتماعيا أيضا يقوم على أساسه التصنيف والاستبعاد أو الولاء والبراء أي بالمفهوم التعبوي المسيّس وهذا هو ما تراهن عليه جماعة الإخوان أو أي فصيل إسلامي سياسي آخر.
أميل إلى القول ( والأمر لا يخلو من مخاطرة ) إلى أن الرهان الأخير سيكون منحازا لقيمة الحريّة والتي برهنت التجارب المتكررة على عجز أي خطاب ديني على إنتاج مفرداتها فضلا عن عدم وضوح أية رؤية نهضوية أو تنموية حقيقية ابعد من الوعد المبهم بمجتمع الفضيلة والكفاية .. على الجانب الآخر من المستحيل أن نتوقع أن تلك المئات من ألوف الشباب بمختلف المرجعيات والخلفيات الاجتماعية والثقافية والتي خرجت لتنادي بسقوط النظام ( إرادة التغيير ) ووقفت بشجاعة نادرة لتتصدي لتلاحق هجمات البلطجية سواء بالميدان أو الأحياء الشعبية ( استعداد للتضحية أو التعرض للإيذاء الجسدي ) ثم واصلت الخروج والتظاهر من اجل الضغط على المجلس العسكري للتسريع بتنفيذ مطالب الثورة ( وعي سياسي ) سوف تقبل في النهاية بحكم ديني سيكون غالبا أكثر تشددا من سابقه السلطوي الديكتاتوري الفاسد على مستوى الحريات العامّة والخاصة والتعاطي السليم مع أدوات الديمقراطية السياسية وهنا لا نغفل مفارقة أن الرهان أيضا قائما على جماعة الأخوان المسلمين ذاتها بخطابها ومواقفها المتناقضة والمنفصلة عن تطلعات وأشواق أجيال جديدة للمستقبل بكل ما يحمله من وعود بحياة أفضل وأكثر كرامة وإنسانية بينما يبقى الدور والعبء التاريخي المنوط به النخب الاجتماعية من كتّاب وسياسيين وناشطين حقوقيين وكل من يفترض به انه يحمل وعيا مغايرا نحو توعية جموع المصريين وابتكار آليات تواصل مختلفة غير متعالية او معقدة تستطيع رأب صدع سوء التفاهم والقطيعة التي مازالت تقف كحجر عثرة بينهم وان يتخلص البعض من سطوة الفكرة النخبوية الانعزالية والمشوبة بأصداء طبقية ونرجسية ويكونوا أكثر التصاقا بالجماهير ومتطلباتهم .. أكثر احتراما لبدائية مناهجهم التعبيرية التي شكلتها نفس القطيعة .. وأكثر استعدادا وإخلاصا لتحمل ضريبة الحرية .. وبالمقابل فان تلك الأغلبية الصامتة يجب عليها أن تكون أكثر ثقة بمفكريها .. أكثر رغبة في التحرر بالفعل لا بالقول أو التمني .. اقل سلبية واقوي في مواجهة الموروث والرجعي والسلطوي .. وتلك العلاقة الجدلية سيكون منتوجها التفاعلي حتما هو التحرر .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)